تحقيقات
نجلاء عبد الجوادسلاح الجوع من النكبة إلى الإبادة
2025.06.02
مصدر الصورة : آخرون
سلاح الجوع من النكبة إلى الإبادة
استخدم الجوع كسلاح حرب عبر التاريخ بهدف إخضاع الشعوب وكسر مقاومتها، سواء عبر الحصار الطويل أو عبر تدمير مصادر الغذاء. ويعتبر هذا من أشد الأساليب وحشية، لارتباطه المباشر بمعاناة المدنيين الأبرياء. لكن سلاح الجوع الإسرائيلي ضد سكان غزة هدفه أكثر من الإخضاع والانكسار، هدفه التهجير وهو هدف معلن من قبل الحكومة الإسرائيلية. سنحاول هنا استعراض الأمثلة التاريخية لاستخدام الجوع كسلاح حرب ضد الشعوب، ورصده كسلاح تطهير عرقي تستخدمه إسرائيل كأداة لتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين منذ نكبة 1948 وحتى حرب غزة 2023 المستمرة حتى اليوم، مع ذكر المخاطر الصحية والنفسية التي يصاب بها سكان غزة وموقف القانون الدولي.
لقد عرف التاريخ الجوع كسلاح قاتل ضد الشعوب منذ الأزل فما بين عامي 146-149 ق.م. حدث حصار قرطاج، حيث دمر الرومان المدينة وأجبروا سكانها على الجوع حتى الاستسلام. وحصار القدس في 1099 خلال الحملات الصليبية، الذي مات فيه الآلاف جوعًا. كما استخدمت القوى الاستعمارية سلاح تجويع السكان الأصليين، في حرب الثلاثين عامًا 1618–1648 التي دمرت المحاصيل في أوروبا، وقُتل حوالي 12 مليون نسمة. وفي الحربين العالميتين الأولى والثانية، تم حصار ألمانيا من قبل الحلفاء 1914–1918 ، ما تسبب في مجاعة مات فيها نحو 750 ألف ألماني. وفي أوكرانيا 1932–1933 خططت السلطات السوفييتية لمجاعة عرفت باسم وباء الجوع أودت بحياة 3–7 ملايين، كعقاب جماعي للمزارعين الرافضين العمل القسري لدى السوفييت. وحصار لينينغراد 1941–1944 حيث قامت ألمانيا النازية بحصار المدينة لمدة 872 يومًا، ووضعت خطة عرفت بخطة الجوع، مات خلالها مليون مدني جوعًا.
وخلال حرب البوسنة من 1992-1996، حاصرت القوات الصربية مدينة سراييفو لمدة 4 سنوات تقريبًا، مانعة وصول الغذاء والإمدادات الضرورية إليها، ما تسبب في وفاة أكثر من 11 ألف شخص. وفي الصومال منعت الميليشيات 1991–1992 المساعدات الغذائية كأداة حرب. وفي اليمن فرض التحالف بقيادة السعودية حصارًا بحريًّا وجويًّا، منذ عام 2015 وحتى الآن، أدى إلى حالة من المجاعة لنحو نصف سكان البلاد البالغ عددهم 32 مليون نسمة، محدثة أسوأ أزمة إنسانية وفقًا للأمم المتحدة. إلا أن الجوع كسلاح قاتل لم يقف عند هذا الحد في فعل جرائمه بل امتد إلى حصار أكثر من مليوني فلسطيني، خلال حرب إسرائيل المستمرة منذ أكثر من عام ونصف في قطاع غزة، كسياسة تطهير عرقي وسلاح إجبار على الهجرة، وهو الهدف الأهم لإسرائيل. التي استخدمت ترسانة واسعة من الأسلحة الفتاكة ضد الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، لا يمكن لأيٍّ من هذه الذخائر أن يكون مذلًّا مثل سلاح التجويع المنظَّم. المجاعة هي أحد مكونات الكارثة التي تعتمدها إسرائيل في حروبها ضد الشعب الفلسطيني.
منذ عام 1948، شكلت سياسة التهجير القسري للفلسطينيين حجر الزاوية في المشروع الصهيوني، من خلال عمليات الطرد المباشر من أراضيهم وحرمانهم من مواردها ، بدءًا من النكبة التي طردت خلالها العصابات الصهيونية أكثر من 750 ألف فلسطيني قسرًا من قراهم ومدنهم، لتُقام على أنقاضها مستوطنات إسرائيلية. لم تكن هذه العملية عشوائية، بل نفذت عبر سياسات ممنهجة شملت: العنف العسكري، التدمير المنظَّم للقرى، واستخدام التجويع كسلاح لإجبار السكان على الفرار. وفقًا لشهادات ناجين من تلك الفترة، يقول الفلسطيني الثمانيني سليمان أبو سمرة: "تم حرمان القرى الفلسطينية من الموارد الأساسية كالماء والغذاء، ما أجبر السكان على النزوح بحثًا عن البقاء، هجَّروا الناس من بلدانهم وأراضيهم واستعملوا الجرافات في هدم البيوت، أن العائلات كانت تجبر على تناول الأعشاب البرية وأوراق الأشجار، بينما تحولت الخيام إلى ملاذ مؤقت للنازحين، في مشهد يشبه ما يعيشه الفلسطينيون اليوم في غزة تحت الحصار الإسرائيلي". وهكذا يتضح أن التهجير لم يكن مجرد نتيجة للصراع المسلح، بل خُطط له عبر خلق ظروف معيشية لا تطاق.
لقد فرضت ساعتها العصابات الصهيونية حصارًا على القرى الفلسطينية، ما قطع إمدادات الغذاء والماء. ففي قريتي اللد والرملة، منعت الميليشيات الإسرائيلية وصول القوافل الإغاثية، ما أدى إلى مجاعات محلية. ودمرت البنية التحتية الزراعية من آبار وأراضٍ زراعية ومخازن الحبوب عمدًا لضمان عدم عودة السكان. وفقًا لتقرير أممي: "استخدمت إسرائيل هذه الأساليب لـطمس الوجود الفلسطيني، عبر تجريف الأراضي وإعطاء القرى أسماء عبرية". وقد روى الفلسطيني ماجد البلعازي الذي عاش النكبة، كيف تحول الجوع إلى سلاح يومي هدفه طمس الوجود الفلسطيني، يقول: "أطلقت أسماء عبرية على القرى المهجَّرة لسرقة الأرض وطمس الهوية، أن التهجير لم يكن مجرد طرد، بل عملية منهجية لـ"إعدام الحياة" في المناطق الفلسطينية".
كما صادرت القوات الإسرائيلية المحاصيل الزراعية، كالقمح والزيتون، والتي كانت مصدر الرزق الرئيسي للفلاحين، ما حوَّلهم إلى لاجئين يعتمدون على المساعدات.
إن الهجوم المستمر على الفلسطينيين وحرمانهم من الأرض والموارد والغذاء هو سلاح ضالع في التطهير العرقي ضد الفلسطينيين تمارسه إسرائيل عبر تاريخها الإجرامي، فالعقل لن ينسى الطريقة التي هاجمت بها القوات الإسرائيلية حقول أشجار الزيتون الفلسطينية، فمنذ عام 1967 تم تدمير أكثر من 800000 شجرة تجسِّد حق الفلسطينيين في وطنهم، ورمزًا للوجود ووسيلة لكسب الرزق.
ورغم اعتراف المجتمع الدولي بالتهجير الفلسطيني كجريمة حرب، فإن الإفلات من العقاب ظل السمة الغالبة. ففي 1948، تجاهلت الدول الكبرى تقارير الصليب الأحمر التي وصفت المجاعات المفتعلة كأداة لتهجير الفلسطينيين وعملية إقصائية صهيونية هدفها جريمة تطهير عرقي ضد الفلسطينيين. ما جعل إسرائيل اليوم تعيد إنتاج هذه الإستراتيجية بأدوات أكثر قسوة لاستكمال تفريغ فلسطين من سكانها، خاصة في قطاع غزة.
تُعَدُّ غزة واحدة من أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، 2.2 مليون نسمة. ومن بين سكان غزة صنفت الأمم المتحدة حوالي 1.7 مليون نسمة كلاجئين، الذين تعتبرهم إسرائيل زيادة على الحاجة. لذا جعلت قطاع غزة موقعًا للحرمان والفقر، حيث فرضت منذ عام 2007 حصارًا خانقًا على القطاع، حصار منع غزة من استيراد كل مواد التنمية، ما جعل القطاع يعاني من عجز طويل الأمد في الكهرباء، كان 25٪ من إمدادات الكهرباء يتم توفيرها من خلال الألواح الشمسية والمولدات، وكان الإنتاج مستقلًّا عن الشبكة الرئيسية للقطاع، وكان يتم توفير 25٪ من محطة طاقة تعمل بالديزل في مدينة غزة. بالإضافة إلى توفير 50٪ من إمدادات الكهرباء من قِبَل إسرائيل، تدفع ثمنها السلطة الفلسطينية. كان الوصول إلى المياه ضعيفًا جدًّا. فإمدادات المياه في القطاع شحيحة، وكان أكثر من 90٪ من المياه تعتبر غير صالحة للاستهلاك البشري. هذا وأكثر ما جعل سكان غزة يعانون ويضطر القليل من الشباب ممن جاءتهم فرصة الهجرة أن يهاجروا دون رجعة، أما أغلب السكان فلم يكن أمامهم إلا العيش في قطاع محاصر يعيش على المساعدات التي تصله من خارج القطاع وتتولى "الأنروا" وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين التابعة للأمم المتحدة - توزيعها على سكان القطاع، وهو الأمر الذي مكَّن الفلسطينيين من البقاء على قيد الحياة رغم الحصار الممتد منذ أكثر من 18 عامًا، حصار خلق مقاومة لا سبيل غيرها أمام احتلال استيطاني وفصل عنصري لا يريد حياة للفلسطيني على أرض غزة، فكانت النتيجة هجوم 7 أكتوبر 2023، التي جعلت إسرائيل تتخذ إجراءات مباشرة وسريعة بقطع كل إمدادات الغذاء والطاقة وغلق المعابر، وكدليل على استمرار سيطرتها على غزة، قطعت الحكومة الإسرائيلية إمدادات المياه والكهرباء والديزل عن القطاع في 12 أكتوبر. وقد أدى قطع إسرائيل للتيار الكهربائي إلى قطع نصف إمدادات غزة من الكهرباء، ومع انخفاض واردات الديزل، انتهت معظم إمدادات الكهرباء. كما استهدفت ألواح الطاقة الشمسية - المصدر الوحيد للطاقة في غزة.
اتبعت إسرائيل سياسة ممنهجة لحرمان القطاع من الموارد الأساسية، ما أدى إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة. وفقًا لتقارير منظمات دولية، تحولت هذه السياسة إلى أداة حرب، تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني وتصنَّف كـجريمة حرب. فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا على غزة، ما قطع إمدادات الكهرباء والماء والوقود، وبحلول ديسمبر 2023، انخفضت الشاحنات اليومية إلى غزة من 500 إلى أقل من 100، وفقًا للأمم المتحدة. وقد صرَّح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بأن المساعدات الإنسانية ستكون مشروطة بالإفراج عن الرهائن أو تدمير حماس، ما يعكس نية متعمدة منذ بدء الحرب لربط البقاء الإنساني بأجندة سياسية تنفذ منذ حصار القطاع في 2007.
كما شنَّت إسرائيل هجومًا على إنتاج الغذاء في غزة، ما يؤكد أن المجاعة هي النتيجة المرجوة. وقد تم استهداف إنتاج الغذاء والزراعة بشكل مباشر. فمعظم الأراضي الزراعية في غزة قد تضررت. كما تم قصف المستودعات الغذائية ومستودعات المساعدات. وتم تدمير آبار المياه والخزانات. وقد توقف صيد الأسماك في غزة، الذي كان في السابق مصدرًا مهمًّا للرزق والطعام، تم تدمير عديد من الموانئ وقوارب الصيد في غارات جوية. وفي الحالات القليلة التي حاول فيها الصيادون الصيد، هاجمت القوات الإسرائيلية الصيادين ما تسبب في وفيات وإصابات. يعد الخبز غذاءً أساسيًّا في غزة، لذا سعت إسرائيل إلى تدمير معظم المخابز في القطاع. واضطرت المخابز القليلة المتبقية -في وقت سابق- التي لم تُستهَدف بشكل مباشر في الهجمات الإسرائيلية إلى الإغلاق بسبب عدم وجود الدقيق، خاصة وأن إسرائيل قصفت مطحنة الدقيق الوحيدة في نوفمبر الماضي.
مع بدء انهيار وقف إطلاق النار مع حماس في مارس هذا العام، لجأت إسرائيل مرة أخرى إلى فرض حصار كامل على القطاع، بما في ذلك قطع جميع إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء. وكان الهدف، وفقًا لمسؤولي مجلس الوزراء الإسرائيلي، هو جعل الحياة لا تطاق على سكان غزة، لإجبار حماس على قبول المطالب الإسرائيلية في محادثات تمديد وقف إطلاق النار. كما دافع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مردِّدًا تصريحات وزير الأمن القومي إيتامار بن جفير، عن قرار الحكومة "بوقف تدفق المساعدات الإنسانية تمامًا"، واصفًا إياها بأنها وسيلة لفتح "أبواب الجحيم.. بأسرع ما يمكن وبطريقة مميتة".
بعد قرابة شهرين من الحصار القديم الجديد، وبينما أعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن إغلاق الحدود تسبَّب في نفاد كل مخزوناته الغذائية في غزة، قال موشيه سعادة، عضو الكنيست من حزب الليكود الذي يتزعَّمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لقناة 14 التلفزيونية الإسرائيلية إن هذا هو القصد: "نعم، سنقوم بتجويع سكان غزة، نعم، هذا هو التزامنا".
في إبريل الماضي أعلن برنامج الغذاء العالمي أن جميع المخابز الـ25 التي يدعمها في غزة، التي كان العديد منها ضروريًّا لبقاء المدنيين خلال المراحل الأولى من الحرب، قد أُجبرت على الإغلاق بسبب نقص الدقيق والوقود. وبما إن الوقود والكهرباء ضروريان لتشغيل محطات تحلية المياه التي توفر معظم مياه الشرب في غزة، فإن ما يقدَّر بنحو 91% من السكان يواجهون أيضًا انعدام الأمن المائي، ما يُفاقم نقص الغذاء ويعيد شبح الأمراض إلى الواجهة. حيث قال متحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة: "إن سكان غزة يدخلون الآن أطول فترة بدون مساعدات إغاثية منذ بدء الحرب في أكتوبر2023. في الوقت الحالي، ربما يكون هذا هو أسوأ وضع إنساني شهدناه على الإطلاق طوال الحرب".
ما يجعل إسرائيل تتمادى في اتِّباع سياسة التجويع ضد سكان قطاع غزة هو أن أقرب حلفاء إسرائيل الغربيين متواطئون بلا خجل في استخدام المجاعة كأداة سياسية، حيث أعلن عدد من الدول المانحة الغربية أنها ستعلِّق المساعدات لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، المسؤولة عن توفير الخدمات الاجتماعية والمساعدات الطارئة لـ5.9 مليون لاجئ فلسطيني، كما أنها المصدر الرئيسي للمساعدات الطارئة والخدمات الأساسية لأكثر من 1.7 مليون من سكان القطاع، وهذا ما زاد من حدة الكارثة الإنسانية في غزة.
دمرت إسرائيل 75% من الأراضي الزراعية و96% من الثروة الحيوانية، ما قضى على 60% من الإنتاج الغذائي المحلي: 37 مركز إغاثة وأكثر من 26 تكية طعام، ما حوَّل غزة إلى منطقة خالية من الأمن الغذائي، كل هذا وشاحنات المساعدات مكدَّسة بالآلاف على الحدود محاطة بمعابر مغلقة تشهد على تقاعس الدول العربية والإسلامية عن تنفيذ ضغوط ملموسة، رغم بيانات الإدانة، وفيتو أمريكي حال دون فرض عقوبات فعالة، ما سمح باستمرار الحصار، في وجود مجتمع دولي لم يعترف رسميًّا بأن غزة "منطقة مجاعة"، رغم وفاة 58 طفلًا -حتى كتابة هذه المقالة- بسبب الجوع، ورغم تصنيف الأمم المتحدة للأزمة بأنها في المرحلة الرابعة وهي مرحلة حَرِجة تُعَدُّ قبل حدوث المجاعة مباشرة.
هذا بالإضافة إلى الأمراض الحالية، التي ستؤثر في الأجيال القادمة من سكان غزة، مثل: الإسهال المائي الحاد، فقد ارتفعت الحالات 25 ضعفًا بسبب تلوث المياه، والتهاب الكبد الوبائي (أ) الذي تفشَّى مع انعدام النظافة. وسوء التغذية الحاد، حوالي 10,000 طفل يعانون منه، 1,397 في حالة حرجة، في المستقبل القريب ستظهر حالات تقزُّم الأطفال نتيجة الحرمان من البروتينات والفيتامينات في مراحل النمو الحرجة، وضعف المناعة الذي سيزيد من معدلات الوفيات بأمراض بسيطة، وتشوهات الأجنة بسبب سوء تغذية الحوامل وغياب الرعاية الصحية.
إن القانون الإنساني الدولي يحرِّم استخدام الجوع كسلاح ويعده جريمة حرب، حيث تنص المادة 54 من اتفاقية جنيف 1977 على حظر تجويع المدنيين كأسلوب في الحرب، وتحظر تدمير المواد الغذائية أو شبكات وآبار المياه أو المناطق الزراعية. كما أن المادة رقم 8 في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 2002، تصنف تجويع المدنيين كجريمة حرب إذا استخدم عمدًا لحرمانهم من المواد الأساسية. وأدان قرار مجلس الأمن رقم 2417 لعام 2018 استخدام التجويع في النزاعات المسلحة، ويدعو إلى محاسبة المسؤولين. ولكن كل هذه القوانين تقف عاجزة أمام إجرام إسرائيل، التي تنتهك القانون الدولي وتَسخَر من اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرات توقيف ضد رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع غالانت بتهمة تنظيم سياسة تجويع مدنية، وهي أول مرة تركِّز فيها في هذه الجريمة تحديدًا، رغم الأدلة الواضحة على استخدام التجويع كسلاح، تظل العقوبات الدولية غائبة، ما يعكس أزمة في النظام القانوني العالمي. كما تواصل أمريكا وحلفاؤها دعم إسرائيل، بل عرقلت عمل المحكمة الجنائية عبر فرض عقوبات على مسؤوليها الرافضين لسياسة الكيل بمكيالين والرضوخ لإملاءات قوى الرأسمالية الاستعمارية. يتطلب إنهاء هذه الجريمة ضغوط دولية مكثَّفة، بما في ذلك تعليق تصدير الأسلحة إلى إسرائيل وفرض عقوبات على المسؤولين. كما يجب تفعيل آليات المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة المتورطين، لأن استمرار الإفلات من العقاب يعمق المأساة الإنسانية ويُهدد مستقبل السلام في المنطقة.
إن تسليح الجوع هو حقيقة واقعة في غزة وجريمة ممنهجة. ولكنها أيضًا مسألة تتعلق بالماضي والمستقبل في فلسطين. إن المجاعة المدروسة هي جزء من المرحلة الحالية من النكبة المستمرة منذ عام 1948، والممتدة إلى اليوم حتى بعد تصريح مايك هاكابي السفير الأمريكي لدى إسرائيل، بأن المساعدات ستدخل في قطاع غزة وأن هناك العديد من الدول العربية –رفض ذكر اسمها- ستموِّل هذه المساعدات، إلا أن عدم وجود هيئات دولية وعلى رأسها وكالة الأونروا يثير الشكوك حول احتمالات عدم وصول تلك المساعدات إلى شمال القطاع واقتصارها فقط على المناطق الجنوبية، ما يؤكد تصريحات الصهيوني سموترش: "إن منع المساعدات عن غزة أمر مبرر حتى لو أدى ذلك إلى مجاعة جماعية للمدنيين، ما سيجبر سكان غزة على المغادرة بأعداد كبيرة نحو دولة ثالثة، بعد أن يتم نقلهم إلى جنوب القطاع".
تكشف سياسة التجويع الإسرائيلية عن استمرار النهج الاستعماري القائم على التهجير القسري. فكما حوَّلت الفلسطينيين إلى لاجئين في 1948 عبر الجوع والعنف، تُعاد اليوم نفس السيناريوهات في غزة، الهدف تفريغ فلسطين من سكانها، إلا أن بقاء الصمود الفلسطيني، رغم كل المعاناة، يذكِّر العالم بأن الحقوق لا تُسلب بالجوع أو القصف، يقول مارك توين: "التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه غالبًا ما يتناغم". نأمل أن تتناغم مأساة سكان قطاع غزة، الذي يجبر على مواجهة نفس الأسلحة -وإن كان بأساليب أكثر حداثة- وأن لا يُعاد تاريخ النكبة مرة أخرى.
ترشيحاتنا
