حي السيدة زينب
د. هدى السعديسبيل وكُتّاب: مياه وعلم وسياسة
2025.07.27
مصدر الصورة : آخرون
سبيل وكُتّاب: مياه وعلم وسياسة
ربما سمع كثير من المصريين الأغنية الشعبية القديمة التي تقول: "عطشان يا صبايا دلونى على السبيل"
يوجد المئات من "الأسبلة" في القاهرة القديمة، وكثير منها في حي السيدة زينب. والسبيل هو مبنى صغير لطيف الشكل، يبنيه سلطان أو أمير أو سيدة من النخبة ، ليحصل منه الناس على المياه مجانًا كل يوم، فكان مكانًا لتقديم الخدمة العامة وأيضًا من أعظم أعمال البر والصدقة لمن ينشئه من أمواله.
لكن مبنى السبيل ليس مجرد مكان لجلب المياه، فقد تم تطويره بتصميم عبقري: أن يتكون المبنى من طابقين، الأول يحصل منه الناس على الماء مجانًا، والثاني "كُتَّاب" لتعليم الصبيان والفتيات. تلك هي فكرة " السبيل / الكُتّاب "، وتمتلئ القاهرة القديمة بتلك البنايات الصغيرة الظريفة الجميلة، التي تزينها الزخارف والخطوط، والتي كانت تخدم العامة في كل حيٍّ عتيق.
سنحكى هنا عن حكاية الأسبلة في القاهرة، وعلى وجه الخصوص أسبلة حي السيدة زينب. سنتعرف على أصلها التاريخي، وأول من بناها، وقيمتها الدينية ثم السياسية في الحي.
***
المدينة الإسلامية والمياه وظهور السُّبل
يكتسب الماء في الثقافة الإسلامية بُعدًا دينيًّا وروحيًّا عميقًا. فهو "نعمة" من عند الله كما ورد في القرآن الكريم، وأوصى النبي ﷺ بسقي العطشى من البشر والحيوانات. بالإضافة إلى ذلك، الطهارة شرط أساسي لأداء الصلاة، ولهذا يتضمن التصميم المعماري للمساجد دائمًا مكانًا مخصصًا للوضوء، الميضأة والأحواض والنوافير. وللماء في الإسلام بوجه عام رمزية سامية، إذ يرتبط بالجنة، ويُمثل في القرآن الكريم مظهرًا من مظاهر الخلق الإلهي.
عند بناء أي مدينة إسلامية جديدة، كان توفير المياه للسكان دائمًا هدفًا رئيسيًّا من تخطيط الحُكَّام لها وإدارة النخبة لأحيائها. وبمرور الوقت في العمارة الإسلامية، صار بناء الأسبلة مرتبطًا ليس فقط بتوفير الخدمات العامة ولكن أيضًا بأعمال الخير والصدقة التي تقدمها النخبة من خلال إتاحة مياه الشرب مجانًا للناس.
كانت بيوتات النخبة والطبقات الوسطى في المدن الإسلامية الكبرى تحصل في العادة على احتياجاتها اليومية من المياه من خلال تعيين "سقّاء"، يجلب المياه لعائلاتهم من أقرب مورد. وقد ازدهرت مهنة السقاء في بعض البلدان الإسلامية أكثر من غيرها، حسب الظروف المناخية والكثافة السكانية وتوفّر الموارد، وكانت مصر من ضمن تلك البلدان مع كثرة حواضرها ووجود نهر النيل بها.
كان السقّا في مصر ينقل الماء في العادة باستخدام جراب كبير من الجلد (غالبًا من جلد الماعز أو البقر) يُطلق عليه اسم "القِرْبة" أو "الزَّمْزَميّة"، يحمِلها على ظهره أو يعلّقها بكتفه. وفي بعض الأحيان كان يستخدم دابة كالحمار أو الجمل إذا كان ينقل كميات كبيرة من الماء، ويعلّق عليها قربتين أو أكثر. وكان يملأ قربته من النيل أو من خزّانات مياه عامة، ثم يوزع الماء على الأهالي أو يبيعه في الأسواق، أو يقدمه مجانًا في المناسبات الدينية كنوع من الصدقة. وكان لا يُسمح للسقا بممارسة عمله دون الحصول على رخصة رسمية من الجهات المختصة، ولا بد أيضًا أن يتحلى بالأخلاق الطيبة المطلوبة لمثل تلك المهنة كالأمانة والصدق.
ومع اتساع المُدن الإسلامية، وتعقد خارطة الطبقات الاجتماعية التي تعيش بها، برزت الحاجة إلى إيجاد حلول دائمة ومنظّمة لتيسير جلب وتوزيع المياه، خاصة للطبقات الدنيا من غير القادرين على دفع أجرة السقاء. ومن هنا ظهرت فكرة "السُّبل"، كمبانٍ تُنشأ خصوصًا لتقديم مياه الشرب النقية والباردة بدون مقابل لسكان الأحياء والمارة في الشوارع وفي الساحات العامة. وتعتبر السُّبل من أسمى نماذج توفير الخدمة العامة مع العمل الخيري في وقت واحد.
***
ما هو السبيل؟ هدية ماء، وهدية علم
سبيل الناصر بن قلاوون في شارع المعز
"السبيل" هو ذلك المبنى اللطيف المخصّص لتوزيع مياه الشرب مجانًا للناس في أحياء المدن الإسلامية القديمة. تطور له في بنائه نمط معماري فريد من نوعه وجميل. يتشكل السبيل من طابقين: الأول وبه صنابير مياه تبرز من شباك تسبيل وخلفه مورد مياه دائم التعبئة، الثاني كُتاب لتعليم الصبيان والفتيات القراءة والكتابة والقرآن الكريم. دائمًا ما يكون المبنى صغير الحجم ويشغل مساحة مركزية داخل الشارع أو الحارة التي يُنشأ بها.
ارتبط انتشار الأسبلة كمكوِّن مُميز للمدينة الإسلامية من الأساس بالمماليك والعثمانيين، واشتهرت كبناء مستقل بذاته عن غيره من المنشآت العامة ولها وظيفة سياسية ودينية محددة. انتشر بناء الأسبلة في أحياء مدن مثل القاهرة وإسطنبول ودمشق، حتى باتت ببنيتها المعهودة من المعالم الحضرية المميزة لتلك المدن. ويُعتقد أن الشكل المعماري للسبيل في ذاك الوقت قد استُلهم من التصورات القرآنية للجنة، بما فيها من أنهارٍ وسلاسةٍ وجمالٍ دائم.
أقدم سبيل معروف لدينا تاريخ إنشائه يقع في بلاد الشام بدمشق، وفي الحقيقة أنشأه الفاطميون في عام 1077–1078م (570هـ) وفقًا للنقش الموجود عليه. أما أقدم سبيل أنشأه المماليك في القاهرة ولا يزال باقيًا فيها، فهو الذي بناه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في شارع المعز في عام 1325م (726هـ)، وكان فقط سبيلًا بدون كتاب، ويقع عند زاوية مُجمَّع والده السلطان المنصور قلاوون الذي يقدم خدمات عامة أخرى كثيرة ويضم مستشفى ومدرسة للفقه.
ثم تبلورت الفكرة المعمارية الفذة والمُتفردة لـ" السبيل / الكُتّاب "، التي تمزج بين تقديم خدمتي الحصول على المياه والتعليم الابتدائي مجانًا معًا. وأقبل كثير من السلاطين والأمراء المماليك على إنشاء الأسبلة-الكتاتيب التي تحمل أسماءهم لتأسيس الشعبية بين العامة، وقاموا بتمويلها ووقف الأملاك للإنفاق على بقائها لتعمل لمئات السنوات. وغالبًا ما كانوا يختارون مكان إقامة السبيل/الكُتّاب عند زوايا المجمعات المعمارية الكبرى وعلى الطرق المزدحمة أو عند تقاطع الشوارع.
عند دخول نابليون القاهرة عام 1798، أحصى فريق الحملة العلمية التي جاءت معه أكثر من 300 سبيل / كُتّاب في المدينة، واليوم لا يزال ما يقرب من 70 مبنى منها قائمًا، يُشكّل جزءًا حيًّا من المشهد المعماري والاجتماعي للقاهرة.
***
تصميم مبنى السبيل
سبيل أم محمد علي الصغير في كلوت بك
أما عن النمط المعماري المميز للسبيل/الكُتّاب في القاهرة، فرغم أنه مبني صغير الحجم في الأغلب، لكنه غني بالزخرفة على واجهته ومن داخله، ليعكس ذوق بانيه ويقوم بتخليد اسمه.
التصميم النمطي لبناء سبيل/كتاب كان دائمًا كالآتي: يضم الطابق الأرضي بئرًا عميقة، وغرفة توزيع للمياه (حجرة التسبيل)، ونافذة التوزيع أو شباك التسبيل وتطل منه صنابير الحصول على المياه. ويضم الطابق العلوي غرفة فسيحة لها نوافذ من المشربيات الخشبية الجميلة، يجلس فيها الشيخ لتعليم الأطفال وتحفيظهم القرآن. ويربط بين الطابقين دَرَج داخلي صغير.
أما عن واجهة المبنى، ففي الواقع كان لكل سبيل/كتاب واجهتان معماريتان مختلفتان، واحدة للطابق السفلي ويتوسطها شباك التسبيل وهو شبكي الشكل مصنوع في الأغلب من النحاس مع الرخام أو الحجر المنقوش، وأخرى للطابق العلوي وتتصدرها المشربيات الخشبية والنقوش والكتابة بآيات قرآنية. كان مؤسس السبيل غالبًا ما يضع لوحة رخامية على الواجهة السفلية منقوش عليها اسمه وتاريخ الإنشاء وأحيانًا أبيات شعرية.
أول خطوة لبناء السبيل كانت إنشاء خزان عميق للماء تحت الأرض، ليصبح المورد الدائم لتوزيع المياه. كانت المياه الخارجة من الخزان تمرّ عبر لوحة رخامية منحوتة تُعرف باسم "السلسَبيل"، وقد كانت هذه اللوحة تستخدم لتبريد الماء أثناء تدفّقه من الخزان.
كان يتم تعيين موظف مخصص لرفع المياه من الخزان وتوزيعها على الناس والمارة خارج السبيل، من خلال شباك التسبيل أو الصنابير.
أما الكُتّاب، فكانت القاعة المخصصة له في الطابق الثاني عادة فسيحة، تعلوها أقواس قائمة على أعمدة رخامية، ومظللة بستائر زخرفية تُوفر الراحة والحماية من الشمس. غالبًا ما احتوى الكُتّاب على تجاويف في الجدران تُستخدم كمكتبات صغيرة لتخزين المصاحف والكتب التعليمية. كما كان يطلّ على الشارع عبر مشربية أنيقة تتكوّن من مجموعة من الأقواس المحمولة على أعمدة حجرية أو رخامية.
وكانت هناك غرفة صغيرة ملحقة بالكُتّاب تُخصَّص للشيخ أو المعلّم المسؤول عن تعليم الأطفال، وتختلف مساحة هذه الغرفة حسب حجم السبيل ومدى سخاء الواقف المموِّل له. وكانت تُمنح الأولوية للأطفال اليتامى للحصول على التعليم وحفظ القرآن الكريم بالأسبلة بشكل عام.
واللافت للانتباه أن بعض من أنشؤوا الأسبلة وفروا من ضمنها أيضًا أحواضًا لشرب الدواب العابرة من حمير وبغال وخيل، إلخ. كانت تقع في الأغلب على جانب مبنى السبيل، وتشرب منها الحيوانات المارة في الحي بسهولة.
***
الأسبلة والنُّخب السياسية الحاكمة
سبيل وكُتّاب عبدالرحمن كتخدا في شارع المعز
أنفقت النخب الحاكمة بسخاء شديد على إنشاء الأسبلة-الكتاتيب في القاهرة، من الأساس في شكل أعمال خيرية من قبيل الصدقات والإحسان. كان كل سلطان أو أمير مملوكي أو موظف عثماني كبير أو سيدة ثرية من تلك الفترة يؤسسون "وقفًا" يُخصَّص ريع جزء من أملاكهم لتمويل إنشاء المبنى، ثم تمويل دفع رواتب من يقومون على إدارته من حيث ملء خزانات المياه وتنظيفها بشكل دوري وتوزيع المياه من شباك التسبيل، ودفع راتب المعلم في الكتاب وتوفير الكُتب الأدوات اللازمة للأطفال، إلخ. وبذلك لا يضطر الأهالي إلى دفع أي شيء للحصول على خدمات المبنى يوميًّا.
ولذلك لم ينفصل تمويل مثل هذا المبنى عن تأسيس شرعية سياسية للنخبة الحاكمة، أو عن استعراض النفوذ في الدولة أو الثراء أو المكانة الاجتماعية في المجال العام. فلم يكن السبيل مجرد صدقة جارية كما هو حاله اليوم، بل كان أيضًا ترسيخًا للسلطة بين العامة وإعلانًا عن القوة وعلامة فخر بالمكانة الاجتماعية. اختيار مواقعها البارزة وزخارفها الفخمة كان يهدف إلى إبراز ورع وتقوى المتبرع صاحب الوقف من ناحية، ولكن أيضًا إظهار درجة نفوذه وثرائه من ناحية أخرى.
بدأ استثمار النُّخب الحاكمة السياسي في الأسبلة من الفترة المملوكية ومرورًا بالعثمانية، واستمر حتى العصر الحديث، حتى صعود أسرة محمد علي باشا إلى الحكم.
غالبًا ما كان مبني سبيل/كتاب يُنشأ خلال العصر المملوكي ضمن تكتلات معمارية كبرى تضم مساجد أو مدارس أو أضرحة، وكان نادرًا في البداية ما يُقام كمنشأة مستقلة. حتى بنى السلطان الأشرف قايتباي أول سبيل/كتاب مستقل كوحدة خدمية قائمة بذاته في عام 1479م في نهاية شارع الصليبة بالقرب من السيدة زينب .
ثم انتشر السبيل/الكتاب المستقل متعدد الطوابق بشكل واسع بعد دخول العثمانيين مصر. لم تعُد القاهرة عاصمة الدولة بعد نهاية الدولة المملوكية، وتركز اهتمام سلاطين العثمانيين المعماري في عاصمتهم إسطنبول. لم يهتم العثمانيون بإنشاء البنايات الضخمة في القاهرة، ذلك مع تكدسها بما تركه من سبقهم من دُول. إنما لجأ موظفو الباب العالي في ولاية مصر إلى تشييد مبانٍ صغيرة مثل السبيل/الكتاب، التي وفرت لهم حلًّا عمليًّا وفعّالًا من حيث التكلفة والمساحة. مكنتهم من ناحية من إثبات الوجود السياسي للدولة العثمانية على الأرض في تلك الولاية المهمة، ومكنتهم أيضًا من تقديم خدمات للعامة والقيام بأعمال البر والإحسان باسم الخلافة الجديدة.
لقد تأثر العثمانيون بالتصميم الذي ابتكره المماليك للسبيل/الكتاب، واستمروا في البناء مثله بالضبط دون تغييرات تُذكر. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت أسبلة العثمانيين تكاد لا تُفرّق في الشكل عن مثيلاتها المملوكية، سواء من حيث التخطيط العام أو الزخارف أو حتى تقنيات البناء، وصولًا إلى أحجام الحجارة الجيرية المحلية المستخدمة.
سبيل وكُتّاب السلطان مصطفى في ميدان السيدة
لكن في القرن الثامن عشر، بدأت التأثيرات التركية العثمانية تترك بصمتها الواضحة على عمارة القاهرة، مثلما نرى في سبيل/كتاب عبدالرحمن كتخدا بشارع المعز المبنى عام 1744م، الذي لا يزال من أبرز المعالم العمرانية في حي الجمالية. فقد بدأت تظهر في هذه المرحلة طرز معمارية تمزج بين التقليد المحلي والتأثيرات القادمة من إسطنبول. ومن الأمثلة على ذلك في حي السيدة زينب سبيل/كتاب السلطان العثماني مصطفى الثالث، الذي يتميز بواجهة منحنية على غرار كثير من السُّبل العثمانية في عاصمة الدولة، حيث كان "الباروك العثماني" هو الطابع الفني السائد. كذلك، وعلى خلاف الطراز المملوكي الذي اعتمد على نحت الزخارف في الحجر نفسه، نجد أن واجهة سبيل السلطان مصطفى مغطاة بالرخام ومزخرفة بزخارف عثمانية تقليدية، من بينها الطغراء، وهي الشعار الخطي الذي يحمل اسم السلطان.
في نهاية القرن التاسع عشر، مع نشأة الدولة الحديثة، بدأ تراجع استخدام النخبة الحاكمة للسبيل/الكتاب. فقد مدت الدولة الحديثة شبكات المياه للمنازل ولم تعُد العائلات في حاجة للذهاب إلى مكان آخر لجلب احتياجاتها، وأنشأت الدولة المدراس الابتدائية الحديثة ولم تعد هناك حاجة إلى الكتاتيب. إلا أنه لا يزال في إمكانك الحصول في شوارع القاهرة على كوب ماء بارد مجانًا من المبردات المنتشرة صدقة لوجه الله، امتدادًا لروح العطاء التي مثّلها السبيل/الكتاب عبر القرون.
***
أسبلة وكتاتيب حي السيدة زينب
مدرسة وسبيل الأمير أزبك اليوسفي في الصليبة
نصل الآن إلى حي السيدة، وسنمر على أهم الأسبلة والكتاتيب المتبقية فيه، وعددها كبير. أنشأها رجال ونساء من النخب الحاكمة وأوقفوا عليها أملاكهم، وتتميز جميعها بشكل معماري جميل. سنمر سريعًا على بعض منها، ونتوقف عند بعض آخر لنتأمله قليلًا.
قام أميران مملوكيان ببناء أسبلة فيه، وألحقاها بمدرستين عظيمتين لتدريس الفقه أنشآها في المنطقة. أولهما الأمير تغري بردي الرومي ، وهو الد المؤرخ الشهير أبو المحاسن بن تغري بردي صاحب "كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة". أنشأ تغري بردي الأب مدرسته الكبيرة للفقه في عام 1440م ، في شارع الصليبة بالسيدة. كان شارع الصليبة بمثابة مجمع تعليمي يحتوي على عديد من المدارس الكبيرة التي بناها أمراء مماليك آخرون، وكان وجود سبيل للمياه فيه بالتأكيد أمرًا ضروريًّا. وما دام تغري بردي قد اهتم بالتعليم العالي، فقد اهتم أيضًا بالتعليم الأولي. ولذلك ألحق سبيل/كتاب بالمدرسة. وثانيهما كان الأمير أزبك اليوسفي، الذي بنى مدرسة كبيرة وجميلة الطراز في عام 1495م قرب شارع الصليبة، وبالمثل ألحق بها سبيل/كتاب.
اهتم قادة الجيش العثماني المعسكرين في مصر ويقيمون فيها لفترات طويلة بالبناء بالولاية، ومنهم من كان يقيم في القلعة لحماية الوالي ومنهم من اتخذ بيوتًا في أحياء القاهرة مثل منطقة السيدة زينب. كانت بناياتهم تؤسس لحضور السلطة العثمانية في الولاية، وأيضًا تمكنهم من الإنفاق في أفعال البر والإحسان على الأهالي البعيدين عن خيرات الباب العالي في إسطنبول. كان الأمير يوسف جورباجي جمليان هياتم يشغل رتبة عالية في الحامية العثمانية، ويمتلك منزلًا بقرب الخليج المصري في السيدة. قرر أن يبنى مسجدًا عظيمًا بقرب بيته وألحق به سبيل/كتاب لخدمة الناس في الشارع، وانتهى من مشروعه الكبير في عام 1763م .
كان منصب "أمير اللواء السلطاني الشريف " من أهم تعيينات الباب العالي في مصر، واهتم من شَغَله بأعمال البر والخير في المحروسة. السلطان العثماني كان خليفة المسلمين الشرعي ومسؤولًا عن تأمين وتيسير الحج، وكان يعين أميرًا لتلك المهمة العظيمة في مصر. يشرف أمير اللواء السلطاني على قافلة الحج التي تخرج من مصر كل عام، تنقل الحجاج وتحمل المؤونة لزوار الحرمين الشريفين. في السيدة بقرب الخليج المصري، بشارع مراسينا وهو شارع كبير مزدحم، أنشأ يوسف بك أمير اللواء السلطاني الشريف سبيل / كتاب في عام 1634م . وتضمن مُجمّعه الصغير أيضًا زاوية للصوفية وحوضًا لسقاية الدواب العابرة من الشارع المزدحم.
سبيل وكُتّاب عباس أغا دار السعادة في الصليبة
وقرر موظف كبير يشغل منصب المشرف على المكاتبات السلطانية أو المراسلات بين الوالي والباب العالي في إسطنبول، اسمه إبراهيم المانسترلي، بناء سبيل له في شارع مراسينا أيضًا. انتهى المانسترلي من بناء سبيله عام 1714م ، ووضع فوق شباك التسبيل لوحة حجرية جميلة داخل إطار مستطيل، منقوش عليها أبيات شعرية تمدح نقاء مياه السبيل، وتدوّن اسم المؤسس وسنة البناء. تقول الأبيات: "سبيل الله يا عطشان فاشرب/ هنيًّا صافيًا يشفى العليلا/ أيا ظمآن فاروِ به وأرخ/ بَنَا إبراهيم ستسقى السلسبيلا سنة 1126هـ."
ومن أهم المناصب وأغربها على الإطلاق في الدولة العثمانية منصب "أغا دار السعادة"، وهم الخصيان السود من شرق إفريقيا الذين يتولون إدارة الحريم السلطاني بزوجاته وجواريه وأبنائه، يتنقلون بحرية بين مجلس السلطان وحريمه، ويتمتعون بنفوذ سياسي هائل وثروات عظيمة يمنحها لهم السلطان ونساؤه كهدايا. حضر عديد من الأغوات لمصر وقاموا بوقف أملاكهم على منشآت لأعمال الخير فيها. في منطقة السيدة، بنى اثنان من هؤلاء الأغوات أسبلة وكتاتيب وفي مناطق حيوية فيه. أولهم هو عباس أغا دار السعادة وبنى سبيله قرب شارع الصليبة في عام 1677م، وكان ملاصقًا لوكالة تجارية كبرى تخدم القوافل الدولية العابرة من مصر اسمها وكالة وقف التونتجي. وثانيهم كان بشير أغا دار السعادة وبنى سبيله في عام 1718م بجوار الخليج المصري.
وفي شارع درب الجماميز الشهير، وكان مليئًا بأشجار الجميز الجميلة ويطل على بركة الفيل، بنى مسؤول عثماني اسمه يوسف الكردي سبيل/كتاب. كان من ضمن مُجمّع صغير به تكية وزاوية للمتصوفين للإقامة والتعبد فيها، وبه أيضًا ضريح لشيخ صوفي اسمه جمال الدين يوسف الكردي.
وفي درب الجماميز أيضًا، بنت سيدة من النخبة اسمها الست صالحة سبيل/كتاب بجوار بيتها في هذا الشارع، في عام 1741م. قامت الدولة الحديثة بفك سبيلها ونقله وإعادة تركيبه في شارع بورسعيد، في ميدان السيدة بجوار المسجد. واليوم، لا يمكن لمن يمرّ بميدان السيدة زينب أن يغفل عن الحضور الطاغي لامرأتين في قلب هذا الفضاء العام: السيدة زينب، رمز الطُّهر والعطاء، والست صالحة، صاحبة السبيل الشامخ القابع بجوار المسجد. هذا التمركز المزدوج يثير التأمل في الأدوار الفاعلة التي لعبتها النساء في صياغة التاريخ العمراني والديني للقاهرة، ويذكّرنا بأن للمرأة حضورًا بصريًّا وروحيًّا طالما شكّل ملامح الحيّ والذاكرة الجماعية.
وإلى جوار المسؤولين العثمانيين، بنى سيدات ورجال من نخبة القاهرة أسبلة جميلة في المنطقة، تهدف إلى فعل الخير وأيضًا إبراز الثروة والمكانة الاجتماعية لمن بناها. أنشأ نقيب الأشراف أحمد أفندي سليم سبيل/كتاب في عام 1699م . والأشراف هم العائلات التي تزعم أن نسبها يعود إلى آل بيت النبي (ص)، ويتمتعون دائمًا بالمكانة الاجتماعية والثروات والمناصب في المدن الإسلامية التي تركزوا فيها. وقد اهتم نقيب الأشراف أحمد أفندي بمنطقة السيدة وبنى فيها منشآته الخيرية تلك.
سبيل وكُتّاب السلطان مصطفى-للفنان الإيطالي ألبرتو روسي
وأخيرًا في نهايات الفترة العثمانية، ظهر سلطانان دفعة واحدة في منطقة السيدة وبنيا فيها سبيلين. كلاهما ظهر في المنطقة في منتصف القرن الثامن عشر، بينما الدولة العثمانية تعاني من الضعف أمام فرنسا وإنجلترا الصاعدتين وفي سبيلها إلى السقوط. أولهما كان السلطان محمود خان، وأنشأ سبيل/كتاب كجزء من المجمع الضخم الذي أقامه بجوار الخليج المصري في عام 1750م . اشتمل مجمع السلطان محمود على مدرسة للفقه الإسلامي، وتكية للصوفية، وعلى جانب المبنى الكبير وضع السبيل/الكتاب لخدمة الأهالي. وبناه على الطراز العثماني المميز بواجهته المقوّسة.
وثانيهما هو السلطان مصطفى الثالث، وبنى سبيله بالضبط أمام مسجد السيدة ولكن على الناحية الأخرى من الخليج المصري في عام 1759م. في الحقيقة لم يكن مسجد السيدة موجودًا عندما أنشأ مصطفى السبيل في هذا الموضع، حيث تم بناء أول ضريح ومسجد لها هنا بعد السبيل بعام واحد فقط على يد أمير مملوكي في سنة 1760م. ويُعد سبيل/كتاب مصطفى الثالث تحفة فنية فائقة الجمال، أراد السلطان من خلاله أن يُبهر سكان القاهرة ويُظهر ما تبقى من مكانة للدولة العثمانية بها. لذلك اختار بعناية تصميمه على الطراز التركي المميز، الباروك العثماني، بواجهته الخارجية المقوّسة التي تحدثنا عنها سابقًا والتي تعكس رقيَّ الذوق ودقة الإتقان المعماري. من أكثر ما يميز هذا السبيل هو البلاطات الخزفية باللون الأزرق التي تغطي الجزء العلوي من جدران غرفة التسبيل من الداخل. استورد السلطان هذه البلاطات من هولندا خصوصًا، وكان البلاط الهولندي برسوماته الزرقاء الدقيقة يُعد رمزًا للفخامة ورفعة الذوق والثروة، واستخدامه في مبانٍ عامة كان مقصودًا من أجل لفت النظر إليها.
لم يتوقف بناء الأسبلة مع وصول الدولة الحديثة، التي أسسها محمد علي باشا في القرن التاسع عشر. اهتمت سيدات الأسرة العلوية الحاكمة خصوصًا ببناء الأسبلة والوقف عليها من ممتلكاتهن. وكُنّ أحيانًا يقمن بتوسيع الكتاب وتحديث مهمته وبنائه خلف واجهة السبيل كمدرسة ابتدائية متكاملة بفصول وقاعات قائمة بذاتها. قامت أرملة إبراهيم باشا، واسمها ألفت هانم قادن ، ببناء سبيل حمل اسمها في أول شارع درب الجماميز في عام 1862 م . كان من المفترض أن يتولى ابنها مصطفى فاضل باشا عرش الأسرة العلوية من بعد أخيه غير الشقيق الخديوي إسماعيل، ولذلك أنشأت لابنها مسجدًا كبيرًا وقصرًا كبيرًا في الشارع، بقرب الخليج المصري الذي كان يتم ردمه وتحويله إلى شارع بورسعيد وقتذاك. وأنشأت لنفسها أمام مسجد ابنها هذا السبيل، ويعرف اليوم بسبيل أم مصطفى. اتبعت النمط المعماري القديم بأن أنشأت كتابًا فوق السبيل وخصصته لتعليم أيتام المسلمين. وقامت بوقف الكثير من أملاكها للإنفاق على العاملين بالمبنى ككل.
وبشكل أكثر طموحًا وبروزًا قامت أم الخديوي عباس باشا ببناء سبيل حمل اسمها في قلب شارع الصليبة العامر، وخلفه مدرسة ابتدائية حديثة كبيرة. كان ابنها عباس باشا أول حاكم لمصر بعد وفاة محمد علي باشا، ولكنه مات مبكرًا وعمره 40 عامًا فقط. من أجل تخليد اسم ابنها وتوطيد صورة الأسرة العلوية بين الناس، أنشأت بنبا قادن أو بمبة قادن أم عباس هذا السبيل في منطقة السيدة عام 1867 م .
***
اتمنى في النهاية أن تكونوا استمتعتم بالجولة وسط أسبله وكتاتيب السيدة، وتعرفتم على السياق السياسي والديني الذي بنيت فيه هذه المنشآت الأساسية داخل المدينة الإسلامية.
ترشيحاتنا
