حي السيدة زينب
د. هدى السعديالتصوف والأولياء والسياسة
2025.07.14
مصدر الصورة : آخرون
التصوف والأولياء والسياسة
حكاية اليوم عن المعالم والممارسات الروحية في حي السيدة زينب. سنتجول معًا في شوارع الحي الذي احتضن عبر قرون إرثًا صوفيًّا غنيًّا لا يزال يترك بصماته حتى اليوم. وسوف نمر من خلال الجولة على الخوانق والتكايا والزوايا، التي كانت يومًا ما مراكز للتعليم، والذكر، والإحسان، والرعاية المجتمعية. ولكنها لم تنفصل أيضًا عن سياسات الحُكّام.
***
التصوف، أو "التزهُّد"، هو البُعد الروحي والباطني في الإسلام. في الأصل كان يمارسه الفرد منعزلًا عن المجتمع من أجل تحقيق علاقة روحية مباشرة وخاصة مع الله، مع محبة مطلقة لله والرغبة الحميمة في التواصل معه. وكان في بداياته يقوم على طقوس فريدة خاصة للتعبُّد، مثل الاعتكاف والإكثار من الصلاة والصوم والزهد في حاجات الدنيا من طعام وشراب وملبس، إلخ. وكان جوهره هو التطهير الكامل للنفس من أجل اتصالها مع خالقها.
لكن في القاهرة القديمة، لم تكن ممارسة التصوف مجرد تجربة شخصية منعزلة، بل فتحت المجال لتشكل مؤسسات كاملة يقيم فيها المتصوفة ويتعبدون معًا بشكل جماعي، وتقدم خدمات إلى العامة والفقراء. تم بناء منشآت ضخمة بها "خلوات" يقطنها طالبو التصوف للاعتكاف والدارسة، ويقيمون فيها حلقات الذكر اليومية التي ينضم إليها الناس، وتوزع بشكل يومي الطعام والشراب وأحيانًا تقدم خدمات العلاج مجانًا إلى العامة الذين يسكنون حولها.
في حي السيدة زينب تحديدًا، ظهرت تلك المؤسسات الضخمة في ثلاثة أشكال من البنايات: الخوانق والتكايا والزوايا. أول من اهتم ببنائها كان أمراء المماليك، وذلك مع انتشار النزعات الصوفية كنوع من التدين الشعبي بين أهالي القاهرة وقتها. ثم من بعدهم أعطاها السلاطين والمسؤولون العثمانيون أيضًا اهتمامًا خاصًّا وأنشؤوا العديد منها.
ربما يظن البعض أن ظهور الدولة الحديثة وتبنيها للثقافة والمؤسسات الأوروبية يكون قد قلل الاهتمام بالتصوف. ولكن المفاجأة أن حُكام الأسرة العلوية احتفظوا بهذا الاهتمام، وبل غالوا فيه بأن انخرطوا في الثقافة الشعبية الرائجة، حيث احتفوا بأولياء الصوفية أصحاب الكرامات والمعجزات وقاموا ببناء المساجد لهم.
لنأخذ جولة في حي السيدة زينب، ونستمتع خلالها ببنايات التصوف التي تحمل الكثير من الأسرار والحكايات العجيبة المذهلة وراءها.
***
ما هو التصوف وأماكنه؟
لقد ظهر التصوف في بداياته كرد فعل على الجمود الفقهي، كطريق بديل لممارسة الإيمان بعيدًا عن أحكام الفقهاء المفرغة من الأبعاد الروحية. وكانت المدارس الفقهية قد تأسست كلها في الحقبة العباسية، وشعر البعض بأنها تضع العلاقة مع الله في قوالب قانونية جامدة لا تحقق لهم الهدف من اعتناق الدين. وفي الوقت ذاته، كانت المجتمعات الإسلامية تزداد ثراء وتحضرًا ويزيد فيها إقبال الناس على المتع المادية في الحياة. وجاء رد الفعل على ذلك، بأن اتجه أفراد عديدون نحو التواصل مع الله بطريقة روحانية خالصة لا تقيدها أحكام الفقهاء، واتجهوا إلى حياة الزهد والتقشف الكامل والاعتزال للعبادة.
وبمرور الوقت أسس كبار مشايخ الصوفية "الطُّرق"، وضمت كل طريقة الآلاف من الأتباع، وكان شيخ الطريقة في الأغلب "ولي" له كرامات تجذب الناس إليه، أي له القدرة على تحقيق معجزات خارقة بسبب علاقته الخاصة مع الله، مثل شفاء المرضى ومساعدة النساء العواقر على الحمل إلخ. ثم تدريجيًّا صار التصوف هو الصيغة الشعبية للتدين التي يُفضلها ويقبل عليها العامة، لأنها الأسهل لهم والأقرب إلى نفوسهم.
لفتت شعبية التصوف أنظار السلاطين والحكام، وقرروا الانخراط فيه واستخدامه كمصدر جديد للشرعية السياسية لهم. ومثلما قامت الطبقات الحاكمة بالاستثمار في بناء المساجد ومدارس تعليم الفقه، قاموا أيضًا بالاستثمار في بناء المنشآت الضخمة التي تتيح للمتصوفة الدراسة والتعبد وعقد حلقات الذكر. وكانوا بالمثل ينشؤون الأوقاف من أملاكهم لتمويل بنائها ودفع رواتب من يقومون على إدارتها والعاملين فيها، ولاستخدامها أيضًا كقاعدة لتوزيع صدقات الطعام وأعمال البر.
من المثير للانتباه أن بعض هذه المنشآت جمعت بين التعليم الفقهي الرسمي والتصوف الشعبي في آنٍ واحد. على سبيل المثال في منطقة السيدة زينب، يضمّ مُجمع الأميرين المملوكين سلار وسنجر مدرسة للفقه وخانقاه معًا، والمجمع الذي بناه السلطان العثماني محمود خان يضم أيضًا مدرسة للفقه وتكية معًا.
ما هي الخانقاه، والتكية، والزاوية، وما هي الفروقات بينهم؟
الخانقاه: ظهرت في العصر العباسي، لكنها ازدهرت بشكل كبير في العصرين الأيوبي والمملوكي. كانت تعمل كمؤسسة تعليمية متكاملة للمتصوفة، حيث كان يقيم فيها في خلوات منفصلة طالب العلم الراغب في الانقطاع لدراسة النصوص الصوفية، تحت إشراف مشايخ من العارفين بكتب الباطنية وعلومها، وتُمنح فيها إجازات علمية. يعني ببساطة، كانت الخانقاه أقرب إلى جامعة صوفية رسمية.
أما التكية : فقد جاءت لاحقًا في العهد العثماني، وكانت مختلفة في طبيعتها. صحيح أنها كانت مكان إقامة لطلبة التصوف، لكنها لم تفرض على من يقيمون فيها الالتزام بالدراسة فقط. كان التركيز فيها أكثر على حلقات الذكر والإنشاد الصوفي في شكل جماعي. بل وكانت تضم قاعة مخصصة للسماع، تُعرف باسم "السماع خانة"، تؤدَّى فيها حلقات الإنشاد وعزف الموسيقى الصوفية. كل من يقيم بالتكية يحصل على طعامه وشرابه وكسوته مجانًا من وقف مؤسِّسها، ويحصل منها الفقراء دائمًا على الطعام والشراب والعلاج مجانًا أيضًا وبشكل يومي. قبيل الفترة الحديثة، صارت كلمة تكية لها طابع سلبي، مرتبطة بعدم العمل والكسل والتواكل على صدقات الحاكم.
وأخيرًا الزاوية : هي أبسط هذه الأشكال. غالبًا ما تكون صغيرة، وتنتشر داخل الأحياء الصغيرة والقرى. يبدؤها عادة شيخ صوفي معه أتباع، وتُستخدم لإقامة حلقات الذكر والوعظ، وتقديم الطعام إلى الفقراء في المناسبات الكبرى كالأعياد والموالد، لكنها لا تُقدم تعليمًا رسميًّا لكتب الصوفية كما هو الحال في الخانقاه والتكية. وفي أغلب الأحيان يكون بداخل الزاوية ضريح لولي صوفي عارف بالله متوفَّى من وقت طويل، شهد الناس قديمًا كراماته وقدرته على تحقيق المعجزات عبر تلقي طلباتهم المستحيلة وتحقيقها لهم، مرة أخرى مثل شفاء مريض يائس يعاني من مرض مزمن أو مساعدة سيدة لا تُنجب أخيرًا على أن تحمل إلخ.
***
كان صلاح الدين الأيوبي هو أول من بنى خانقاه في القاهرة، تحديدًا في عام 1168 م . تُعرف باسم خانقاه " سعيد السعداء " وموجودة اليوم في شارع الجمالية. مثلت تلك البناية أول اهتمام صريح من الدولة بالتدين الشعبي ومساندته. وكانت دوافع صلاح الدين الأيوبي وراء تأسيسها دينية وسياسية في آنٍ واحد.
أراد صلاح الدين من خلال "سعيد السعداء" نشر المذهب السني كمشروع سياسي واسع. صعد صلاح الدين إلى الحكم بعد سقوط الخلافة الفاطمية الشيعية، وكان يعتقد أن سبب نجاح الغزو الصليبي لبلاد المسلمين هو سيادة المذهب الشيعي الذي اعتبره عقيدة فاسدة فيها. واعتقد أن أول خطوة لهزيمة الصليبيين هي استعادة الدين الصحيح، بإعادة نشر المذهب السني والقضاء على المذهب الشيعي بين الناس. كان تأسيس "سعيد السعداء" من ضمن مشروع أكبر لصلاح الدين لإعادة تشكيل المشهد الديني في القاهرة ومصر والشام والحجاز الذين كانوا تحت دولته الجديدة، بالإضافة إلى تأسيس شرعيته السياسية وصورته في عيون العامة كحاكم صالح وزاهد.
تم تصميم تلك الخانقاه لتصير بؤرة إقليمية لمتصوفة السنة، حيث تم تجهيزها لاستقبال الطلبة والضيوف القادمين من خارج مصر، ممن كانوا يتبعون الفقه السني على المذهبين الشافعي أو المالكي على وجه الخصوص ومن يتبعون العقيدة الأشعرية في علم الكلام والملتزمة بأحكام السنة.
وبالفعل نجحت خانقاه "سعيد السعداء" في جلب متصوفة من السُّنّة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليقيموا فيها، ولعبت دورًا محوريًّا في نشر التصوف في مصر والدولة الأيوبية كلها. وساعدت على إدخال وشيوع مفاهيم وممارسات جديدة للعبادة الروحانية في المجتمع المصري.
استمرت دولة المماليك من بعد الدولة الأيوبية في تأسيس ودعم الخوانق. وأضفت تلك الرعاية التي منحتها الدولة على التصوف شرعية مؤسسية وجعلته جزءًا أصيلًا من المجال الديني الرسمي. كان السلاطين والأمراء يقومون بافتتاح المنشآت الصوفية التي ينشئونها في أنحاء القاهرة في احتفالات شعبية يشهدها العامة. ذكر الرحالة الشهير ابن بطوطة، وقد زار مصر في الفترة المملوكية في سنة 1326م، أن أمراء مصر كانوا يتنافسون في بناء الخوانق والزوايا، فإذا تم بناء إحداها افتتحها السلطان في حفل كبير يحضره رجال الدين والقضاة ومشايخ الصوفية.
أثرت رعاية الحكّام للتصوف بشكل كبير في نفوذ مشايخهم في مصر، إذ رفعت من مكانتهم ووفّرت لهم الموارد التي مكنتهم من تقديم خدمات اجتماعية والحصول على القبول الشعبي. كانوا يقدمون خدمات التعليم المجاني ويوزعون الصدقات على الفقراء. أعانهم كل ذلك على تشكيل تحالفات سياسية، وحدث تداخل شديد بين التصوف والسلطة وشبكات النخبة.
وأدى هذا الاهتمام بالتصوف من قبل الدولة لإقبال الناس على إنشاء الزوايا الصغيرة في الشوارع والقرى، وكانت تُدار بشكل مُستقل ومحلي ويخصّص لها أهل الخير المقيمون حولها جزءًا من صدقاتهم للإنفاق على مريديها ومرتاديها.
وبمرور الوقت صارت ممارسات المتصوفة جزءًا متجذرًا في الحياة اليومية لجميع الطبقات والفئات الاجتماعية بمصر. صارت الطقوس الصوفية والاحتفالات الجماعية لهم جزءًا من المناسبات العامة الرائجة التي يحضرها الناس بحماس، وكان مشايخ الصوفية يظهرون باستمرار في الاحتفالات الكبيرة بالشوارع في المناسبات والزيارات الجماعية للمساجد. انجذبت الناس من النخبة والعامة إليه، وترسخت تقاليد التصوف داخل النسيج الاجتماعي والثقافي للقاهرة القديمة.
تسببت مشاريع التحديث أو التغريب في القرن التاسع عشر في تقلص ممارسات الصوفية، ولم تعُد النُّخب الحاكمة التي تسعي لجعل مجتمعاتها تحاكي الغرب ثقافيًّا تهتم بإنشاء بنايات للمتصوفة أو دعمهم ماديًّا. وبالرغم من ذلك، استمر وجود التصوف كجزء من الثقافة الشعبية، واستمر الناس في بناء زوايا صغيرة يتوسطها أضرحة الأولياء ويتبركون بهم. لا زالت تقام في تلك الزوايا حلقات الذكر حتى اليوم كممارسات شعبية للتدين واسعة الانتشار.
***
لنعود إلى حي السيدة زينب، الذي يضم اليوم ما يقارب عشر خوانق وتكايا وزوايا وأضرحة صوفية لأولياء تعقد لهم الموالد السنوية ، تشهد استمرار التصوف في هذا الحي تحديدًا كظاهرة روحانية شعبية تهزم الزمن والتحديث. قام ببنائها أمراء المماليك ومن بعدهم سلاطين وكبار موظفي الدولة العثمانية. ومن المثير للتعجب أن اثنين من خديويِ الأسرة العلوية المعروفين بتبني الثقافة الغربية تمامًا قاما ببناء أضرحة لأولياء أصحاب كرامات بالحي.
لنبدأ بخانقاه الأميرين سلار وسنجر الجاولي ، وكانا صديقين مقربين يخدمان في دولة السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وقررا الاشتراك معًا في بناء مجمع ضخم يخلد اسمهما، ويضم مدرسة للفقه مع خانقاه، وانتهيا من البناء في سنة 1303 م. الأمير سيف الدين سلار شغل أعلى المراتب حتى تولى منصب نائب السلطنة لقلاوون، والأمير علم الدين سنجر الجاولي شغل مناصب والي غزة ومقدم المماليك في مصر. اهتم سنجر على نحو شخصي بعلوم الحديث ودرس فقه الإمام الشافعي في وقت فراغه من مهامه السياسية، وكان هو صاحب فكرة بناء المُجمع واقترحها على صديقه. في شارع مراسينا وعلى نقطة عالية من قلعة الكبش، بنيا المبنى الهائل العظيم للمدرسة وخلوات الصوفية الملحقة بها، وبنيا أيضًا ضريحين متجاورين ليدفنا فيهما بعد وفاتهما. فوق الضريحين قبتان، قبة سلار أعلى من قبة سنجر لأن رتبته كانت أعلى. توفي سلار قبل سنجر، حبسه قلاوون ومنع عنه الطعام حتى مات، وتولى دفنه صديقه تحت قبته، لينعم بأصوات التعبد للمتصوفة المعتكفين في خلواتهم بجوار ضريحه.
خانقاه سلار وسنجر الجاولي
ثم بنى رجل آخر مقرب أكثر جدًّا من السلطان الناصر محمد بن قلاوون خانقاه، وهو زوج ابنته وكاتب السرّ في حكومته الأمير سيف الدين بشتاك الناصري. اختار بشتاك درب الجماميز، الشارع المطل على الخليج المصري وبركة الفيل المليء بأشجار الجميز الجميلة، ليبنى خانقاه لطيفة يرعى فيها طلبة التصوف وينفق عليهم في عام 1336م . بناها بالضبط أمام مسجده العظيم الذي حمل اسمه. للأسف لم تنقذ دعوات المتصوفين بشتاك من مصيره على يد سلطانه. كان بشتاك شديد الغرور والفخر، لا يحاول التقرب من العامة ولا يتحدث اللغة العربية، ويستخدم دائمًا ترجمان في التعامل مع الناس. ازدادت ثروته ونفوذه وكره قلاوون ذلك، وتم القبض عليه وسجنه وقتله. لا يوجد لتلك الخانقاه أثر اليوم، حيث هدمتها أرملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا وبنت لنفسها سبيلًا محلها سنة 1862. مكانها اليوم سبيل ألف هانم قادن أو أم مصطفى.
لا زلنا في درب الجماميز، حيث بنى قاضٍ أصله مسيحي خانقاه أخرى بالضبط بجوار التي بناها الأمير بشتاك. أنشأ القاضي الأمير سعد الدين بن غراب خانقاه كبيرة وجميلة متميزة في معمارها سنة 1400 م. كان جد ابن غراب في الأصل قبطيًّا يعمل كمباشر أي محاسب في ضرائب الدولة في الإسكندرية، ثم أسلم وتولي منصب ناظر المدينة ومينائها. نشأ حفيده سعد الدين مسلمًا في عائلة من أرباب السيف والقلم معًا، حيث كان سعد أميرًا مقاتلًا تولى منصب ناظر الجيوش وكاتب السر السلطاني. درس ابن غراب الفقه والشريعة، وتولى منصب القضاء في المحاكم المملوكية. ويبدو أنه اهتم أيضًا بنصوص الصوفية والتأويلات الباطنية وما تمنحه من بدائل باطنية لمن يقرؤها، وأنشأ تلك الخانقاه لإقامة طلاب التصوف بخلواتها والإنفاق على من عليهم من أمواله. قال المقريزي عن ابن غراب: كان وسيمًا ومن أفضل رجال الدولة شكلًا، وكان كريمًا للغاية ويحب إعطاء الصدقات ولم يكن فاسد اليد، ولكنه كان يغدر بأعدائه ولا يتوانى عن القضاء عليهم. لما توفي كانت جنازته كبيرة جدًّا وعجيبة شهدها كل رجال الدولة والأعيان، لدرجة أن الناس كانت تستأجر الحوانيت لمشاهدة مرورها، ونزل السلطان بنفسه من القلعة للصلاة عليه.
خانقاه سعد الدين بن غراب
ومن عجائب الأمور أن أميرًا مملوكيًّا اسمه تمراز الأحمدي تحول هو نفسه إلى ولي من أولياء الله الصالحين وصاحب مقام. وسنجد بجوار مسجد السيدة زينب اليوم يوجد مسجد كبير اسمه جامع تمراز، بناه قائد الجيش في دولة السلطان قايتباي تمراز الأحمدي سنة 1472م. كان تمراز في الحقيقة هو ابن أخت السلطان قايتباي، وتقلد مناصب عليا منها نائبه في الشام وامتلك ثروات ضخمة بنى منها الكثير من المنشآت في القاهرة. بنى هذا الجامع بقرب الخليج المصري ووضع لنفسه فيه ضريحًا ليدفن فيه عندما يموت. دفن فعلًا في هذا الضريح، ولا أحد يعرف لماذا ومتى كتبت الناس على القبر: " ضريح العارف بالله سيدي الشيخ تمراز الأحمدي "، وغطوه أيضًا بغطاء أخضر كما يتم في العادة مع مقامات الأولياء. يبدو أن الناس قد اعتبروه بالفعل وليًّا من ضمن أصحاب المقامات هؤلاء. وبالمسجد مقام آخر لولي صاحب كرامات اسمه "سيدي بهلول"، وهو الشيخ الصوفي بهلول ابن إسحاق الأنباري الذي دفن في المكان قبل بناء المسجد بحوالي ٤٠ سنة. يوجد شارع صغير خلف جامع تمراز اسمه درب الشمسي، كانت تسكنه عائلة عثمانية نافذة تُدعى الشمسي- توفنكيجيان. وفي عام 1766م، قامت تلك العائلة بترميم المسجد وتحويله إلى زاوية لأتباع الطريقة القادرية. تزوّج كبير العائلة ابنة شيخ الطريقة القادرية، وكان يمتلك بيتًا كبيرًا بدرب الشمسي، ولذلك وضع بالمسجد زاوية لتلك الطريقة تحديدًا.
مسجد وزاوية تمراز الأحمدي
ثم ظهرت زاوية مسجد الخضيري، لم يؤسسها مسؤولٌ حكومي بل بناها ولي من أولياء الله الصالحين بنفسه، يقيم الناس له مولد سنوي. كان الشيخ سليمان علي الدين الخضيري من كبار المتصوفة في زمانه، كان صاحب كرامات وله عدد كبير من المريدين. شهد نهايات العصر المملوكي ودخول العثمانيين مصر، وتوفي سنة 1557 م. أنشأ هذه الزاوية أثناء حياته و اختار لها موقعًا قريبًا من خانقاه سلار وسنجر. كان الشيخ يمتلك أطيانًا كثيرة وأوقف من ريعها على الزاوية لتعيين من يقومون عليها والإنفاق على الزوار وحلقات الذكر. ولما توفي تم دفنه فيها، ثم أقام ابنه الشيخ أحمد الخضيري بعده فيها ودفن فيها أيضًا، وظلت الناس تزور ضريحه وتتبرك به من بعدها. وظلت تقام حضرة للذكر بها كل أسبوع، ويقام للشيخ مولد كبير كل عام. تحولت الزاوية بمرور الوقت إلى جامع حمل اسم الشيخ أيضًا. اندثرت زاوية الخضيري ولا يوجد لها بقايا اليوم، إلا أن علي باشا مبارك سجل وجودها في كتابه "الخطط التوفيقية" وقال:
"جامع الخضيرى... كان أول أمره زاوية أنشأها العارف بالله تعالى الشيخ سليمان الخضيري المتوفَّى سنة خمس وستين وتسع مئة، وشعائره مقامة، وبداخله ضريحان، أحدهما للشيخ سليمان المذكور، والآخر لولده الشيخ أحمد الخضيري، يعمل لهما حضرة كل أسبوع، ومولد كل عام".
نعود إلى درب الجماميز مرة أخرى، حيث تم بناء أول تكية وزاوية فيه. لا نعرف بالضبط تاريخ بناء تلك التكية ولا من بناها، ولكن نعرف أنها بنيت في أوائل الفترة العثمانية ومعروفة باسم تكية وزاوية يوسف الكردي. مدفون داخل الزاوية الشيخ جمال الدين يوسف الكردي، وبجواره ضريحان لأبنيه الشيخ الفوزي والشيخ الخضري. بها سبيل وكتاب لتعليم الأطفال وبها محراب خشبي جميل ذو عمودين من الرخام، ولديها شباكان من النحاس.
ثم ظهرت زوايا وتكايا المسؤولين العثمانيين بالمنطقة. أنشأ يوسف بك أمير اللواء السلطاني الشريف ، المسؤول عن قافلة الحج السنوية، زاوية في عام 1634م. أسسها في شارع مراسينا أيضًا بجوار خانقاه سلار وسنجر، ضمن مجمع خيري صغير يضم سبيلًا عامًّا لتوفير المياه مجانًا لسكان المنطقة وحوضًا لشرب الدواب المارة، وكتاب لتعليم الأطفال.
وأخيرًا ظهر سلطان عثماني في السيدة، أنشأ تكية كبرى من ضمن مجمع ضخم أقامه بقرب الخليج المصري. بينما الدولة العثمانية تعاني من الضعف وتقترب من نهايتها، أمر السلطان محمود خان الأول بإنشاء تكية ومعها مدرسة للفقه وكتاب لتعليم الأطفال وسبيل لتوزيع المياه مجانًا بمنطقة السيدة في عام 1750م . كان بناء هذه التكيه محاولة متأخرة من السلطان لتذكير الناس في الولاية بوجود الخلافة العثمانية وتجديد حضورها المرئي على الأرض بينهم، من خلال إنشاء البنايات التي تخدمهم في حياتهم اليومية مثل الأسبلة والكتاتيب والتكايا. كلف السلطان محمود وكيله بشير أغا دار السعادة بإنشاء هذا المجمع الضخم، ولم يحضر بنفسه ليفتتحه. يبدو أن المجمع بمرور الوقت صار يركز بشكل رئيسي في خدمة مشايخ الصوفية وسكن الدراويش وإطعام الفقراء يوميًّا، فصار الناس يسمونه فقط بـ"تكية السلطان محمود". لم يهتم سلاطين العثمانيين وقتها كثيرًا بتعليم الفقه في مصر ولم ينشئوا المدارس الكبيرة له مثل المماليك، واتجهوا بالأساس لدعم التدين الشعبي الذي تتم ممارسته في التكايا من أجل الاحتفاظ بشرعيتهم كخلفاء للمسلمين يحكمونهم من بعيد في إسطنبول. وفي الحقيقة كان السلطان محمود يُعرَف بأنه من آخر سلاطين العثمانيين الذين اشتهروا بحسن السيرة وكثرة المآثر، وكان الإنفاق على فقراء المصريين من خلال تلك التكية من ضمن أعمال البر والإحسان التي كان يحب القيام بها.
استخدم السلطان محمود طرازًا عثمانيًّا في تصميم التكية وأشكال الزخارف على حيطانها، من أجل بثّ روح الانتماء إلى الخلافة العثمانية لمن يمر على التكية أو يدخلها. وتعكس مشاهدها سلطة المركز العثماني وامتدادها الرمزي إلى أطراف الدولة. لكن محمود خان كان ذكيًّا ويعرف جيدًا أن أهل مصر لهم هوية معمارية خاصة اعتادوا عليها، فقام بتصميم مدخل المسجد داخل المجمع على غرار مداخل العصر المملوكي، وكأنه يخاطب به أهل القاهرة ويقول لهم إنه منهم. في واقع الأمر، تلك التكيه هي مثال حيّ لكيف كان المعمار أداة يستخدمها الحكام لتحقيق أهداف سياسية.
تكية السلطان محمود
رحل العثمانيون وجاءت دولة محمد علي باشا وأبنائه، وكانت الأسرة العلوية مولعة بتحديث مصر على الطابع الأوربي. أرسل الباشا أبناءه وأحفاده للتعلم في فرنسا، وعادوا منها يرتدون الحلات الأوروبية ويأكلون على موائد وفي أوانٍ مستوردة وسيداتهم يرتدين أحدث الأزياء الرائجة في باريس. لم يهتموا بالممارسات التقليدية، بل عملوا جاهدين على تبديل بها مؤسسات أخرى حديثة، ولم يبنِ أحد من الأسرة العلوية الحاكمة ولا خانقاه ولا تكية ولا زاوية طوال القرن التاسع عشر. ولكن الغريب في الأمر أنه، وفي منطقة السيدة زينب تحديدًا، بنى اثنان من حكام الأسرة أضرحة لاثنين من أولياء الله الصالحين أصحاب الكرامات. يبدو أن الطبقة الحاكمة الحديثة لا زالت تؤمن بكرامات الأولياء وتتبرك بها.
الخديوي إسماعيل كان من ضمن أحفاد محمد علي باشا الذين درسوا في فرنسا، وعاد منها متبنيًا بشكل كامل للثقافة الغربية، وبنى معظم البنايات الحديثة بالقاهرة الخديوية ذات الطابع الأوروبي البحت التي نعرفها اليوم. ولكنه قرر أن يبني في السيدة زينب مسجدًا لشيخ صوفي كان قد تنبأ له بالصعود إلى العرش، وتحققت نبوءته. هو مسجد الشيخ صالح أبو حديد الذي انتهى منه في عام 1867م . لم يكن الشيخ صالح رجل دين في بداياته، بل بدأ حياته كقاطع طريق، قبل أن يتحول إلى درويش زاهد، يلبس خرق التصوّف ويجوب شوارع القاهرة، حتى صار له مريدون ومحبون يعتقدون في كراماته ويتبركون به. آمن الخديوي إسماعيل بكرامات أبو حديد عندما تنبأ له بأنه سيجلس على عرش مصر، ولما بان صدق الكرامة، بنى له هذا المسجد الكبير ودُفن فيه لما مات. ضريح أبو حديد داخل المسجد تحول إلى مزار شعبي للناس. ومن هنا، لم يكن المسجد الذي شُيّد على اسمه مجرد بناء ديني، بل تحوّل إلى نقطة التقاء بين التصوّف الشعبي والسلطة السياسية، وإلى رمز للتمازج العجيب بين الحداثة والتقاليد الشعبية.
مسجد الشيخ صالح أبو حديد
ثم سيقوم خديوي حديث آخر بفعل الشيء نفسه. الخديوي عباس حلمي الثاني كان يعاني من سطوة الاحتلال الإنجليزي فوقه، كان حاكمًا بلا سلطات لدولة مديونة. تلقى تعليمه في أوروبا وتزوج سيدة أوروبية أرستقراطية، ولكنه يحتاج حتمًا إلى بركات الأولياء وإلى الشعبية باسمهم عند الناس. اختار عباس حلمي ضريحًا لشيخ صوفي توفي ودفن في السيدة من قرون، اسمه الشيخ شمس الدين الحنفي وكان أتباعه يلقبونه بـ"السلطان الحنفي"، وبنى له مسجدًا كبيرًا. يقال إن هذا الوليّ من نسل أبي بكر الصدّيق، وتوفي في القاهرة المملوكية عام 1443م، ودفن في خلوته الخاصة التي كان يعتزل للعبادة فيها، وتحولت إلى ضريحه الذي ظل الناس يزورونه لقرون للتبرك. بنى عباس حلمي مسجده فوق تلك الخلوة والضريح في السيدة. للأسف لم تُفِد كرامات السلطان الحنفي الخديوي عباس حلمي على الإطلاق. بمجرد أن انتهى من بناء المسجد في عام 1914م، قام الإنجليز بنفيه خارج مصر ولم يعُد إليها مرة أخرى.
الطريف أن مسجد السلطان الحنفي يضم بئرًا قديمة مشهورة حتى اليوم بين الزوار. يقال إن مياهها تملك قدرات خارقة لطالبي المعجزات، مثل الشفاء من الأمراض والزواج لمن يرغبون فيه. بعض الزوّار يؤمنون أن مياه البئر متصلة ببئر زمزم في مكة، بينما يرى آخرون -بطريقة أقل شاعرية- أن الماء ملوّث ويتصل بشبكة الصرف الصحي.
![]() |
![]() |
مسجد السلطان الحنفي من الداخل | مسجد السلطان الحنفي |
***
إذن، لم يكن التصوف في حي السيدة زينب فقط حالة روحية فردية، بل مؤسسات تعليمية واجتماعية وثقافة شعبية عميقة ينبض بها قلب القاهرة القديمة، وجزءًا لا يتجزأ من شؤون السياسة والحكم فيها. خوانق وزوايا وتكايا السيدة زينب تروي حكاية هذا النوع من التصوف الذي جمع بين الشريعة والمحبة، بين المادي والروحي، وبين السياسة والدين.
ترشيحاتنا
