عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

حي السيدة زينب

زينب أبو المجد

السلطان ابن قلاوون: سِباع وكنيسة وقرشانة

2025.07.21

مصدر الصورة : آخرون

السلطان ابن قلاوون: سِباع وكنيسة وقرشانة

 

عادت الحياة إلى منطقة السيدة زينب على يد هذا السلطان الغريب. منذ أن بنى أحمد بن طولون مدينة القطائع ومسجده العظيم بالمنطقة، تجاهلها كل من جاء لحكم مصر من بعده. خربت القطائع، وبُنيت مدينة القاهرة الفاطمية بعيدًا عنها، ولم يرغب أحد من الخلفاء والسلاطين في العودة إلى منطقة السيدة للبناء بها لمئات السنوات.

حتى ظهر فيها السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وفجأة أعاد تخطيط المنطقة وزحفت البنايات العظيمة مجددًا بأبهى وأفخم ما يكون. بل إنه حفر فيها بحيرة جميلة حملت اسمه، البركة الناصرية، وجذبت الأمراء والنبلاء للبناء اللطيف حولها.

الناصر بن قلاوون من أعجب السلاطين وأقواهم وأطولهم بقاء في السُّلطة، حكم، ثم تم عزله من الحكم، ثم عاد إلى الحكم مجددًا ثلاث مرات. وثالث فترة لحكمه استمرت 32 سنة متواصلة حتى توفي عام 1341م.

وبكل فخر بقوته المُطلقة، هدم الناصر قناطر بناها السلطان بيبرس في المنطقة على الخليج الذي كان يقطعها -قناطر السباع- وأنشأها مرة أخرى، ولكن قرر بغرور أن ينزع منها تلك السباع أي الأسود التي ترمز لبيبرس. وقد وصله أن العامة يتهكمون على قراره هذا الذي يبدو صبيانيًّا لسلطان في مثل سطوته.

ولما بدأ في حفر بحيرة صغيرة تحمل اسمه بالمنطقة، تم ذلك المشروع المُذهل على حساب كنيسة كانت بها. في حقيقة الأمر، البركة الناصرية حُفرت في وقت كان العامة والغوغاء يهدمون ويحرقون كل الكنائس في القاهرة القديمة في حملة غير مسبوقة.

لقد منح الناصر لمرضعته، "مرضعة قلاوون" الشهيرة ومربيته، قطعة أرض كبيرة بجوار بركة الناصرية، بنت عليها مسجدًا هائلًا وتوسعت حوله سريعًا الأسواق والشوارع. مشروع الست مسكة، أو قهرمانة القصر السلطاني أو كما أطلق الناس عليها اسم "قرشانة"، سيجذب الكثير من النخبة والعامة للسكن في السيدة وعمرانها في تلك الفترة.

دعونا نتتبع هنا قصة تلك السباع وقناطرها، والكنيسة المهدومة محلّ البِركة، ومشروعات مُرضعة السلطان في السيدة.

***

سلطان لثلاث مرات

من هو الناصر محمد بن قلاوون؟ وكيف وصل هنا؟

أبوه هو السلطان الشهير المنصور سيف الدين قلاوون، وأمه أميرة مغولية عالية النسب.

لقد وضع المماليك نظامًا لتداول السلطة، عندما أسسوا دولتهم العظيمة في مصر، لا يقوم على وراثة الأبناء للعرش. إنما يقوم على حصول أقوى قائد مملوكي موجود والأكثر كفاءة على كرسي السلطنة. وعندما يموت سلطان، يتداولون فيما بينهم ويختارون أقواهم وأفضلهم ليصير سلطانًا بعده. حتى جاء المنصور قلاوون وغيَّر ذلك النظام، بأن ورّث الحكم لأبنائه وجعلها ملكية في عائلته. وقد صعد الناصر محمد إلى العرش وهو طفل عمره ٨ سنوات فقط.

وُلِـد الناصر ليجد نفسه ابن السلطان. تزوج أبوه المنصور أميرة مغولية جاء أبوها هاربًا لمصر من سلطان المغول وقتها، شابة فائقة الجمال اسمها خوند أشلون وتُعرف أيضًا باسم أصلباي، وأنجبته في عام 1285م.

تولى الناصر لأول مرة الحكم سنة 1293م، وعزله مماليك أبيه بعد عام واحد فقط. ثم تولاه مرة ثانية عام 1299م، وظل في الكرسي تلك المرة عشر سنوات حتى عام 1309م، ولكن نزل عنه مرة ثانية. وأخيرًا تمكن من العودة في العام نفسه، وهو شاب ناضج قوي في تلك المرة، وتمكن أخيرًا من البقاء سلطانًا لأكثر من ثلاثين عامًا حتى توفي.

نعرف آل قلاوون من خلال بناياتهم الشاهقة في شارع المعز بقاهرة الفاطميين. المنصور قلاوون هو صاحب المجموعة الشهيرة المتصدرة قلب الشارع وبها مدرسة لتعليم الفقه ومستشفى ومسجد وقبة عظيمة، وبنى الناصر محمد بن قلاوون بجوار مجمع أبيه مدرسة أخرى عظيمة لتعليم الفقه. قد أنشأ الناصر مقبرة وقبّة فخمة لأمه الشريفة المغولية في داخل مدرسته تلك.

لقد حضر الناصر محمد إلى منطقة السيدة وهو ملك في أوج قوته. ومنذ أن بدأت سلطتهم في التعاظم، صار المماليك يبحثون عن مناطق أخرى لتثبيت شرعيتهم السياسية ببنايات شاهقة بعيدًا عن أماكن من سبقهم. هكذا اهتموا بالمنطقة الجميلة حول بركة الفيل شاسعة المساحة في السيدة، وبدءوا يتمددون في بناء البيوت التي تشرف نوافذها عليها، ثم تمددوا فيها أكثر بمشروعات هائلة، كل منها لا يُدرك النظر أوله من آخره.

ها هو الناصر محمد يتخذ القرار بأن يخرج عن قاهرة من سبقوه، ويبدأ في تخطيط وتعمير منطقة السيدة كما لم يفعل أحد من قبله.

***

قناطر السباع بلا سباع

قناطر السباع والخليج المصري

قناطر السباع

كان يقطع منطقة السيدة زينب قناة مياه كبيرة اسمها الخليج المصري، تبدأ من النيل من جنوبها وتنحني داخلها وتسير ثم تتجاوزها إلى أقصى شمال القاهرة. وصل السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى الحكم ليجد عليه (الخليج المصري) بالفعل قناطر عظيمة قائمة، أنشأها السلطان الظاهر بيبرس، تحديدًا في منطقة الحمراء القصوى، التي يقع فيها مسجد السيدة اليوم. يستخدم الناس القناطر للعبور فوق الخليج من جهة إلى أخرى، هذا بينما تتسع الشوارع المليئة بالأشجار على جانبيه.

قام بيبرس بتزيين قناطره تلك "بسباع"، أو أسود منحوتة من الحجارة نُصبت عليها. وكان لكل سلطان مملوكي شعار يرمز إليه يسمونه "رنك"، والسبع هو رنك السلطان بيبرس. وسماها الناس لذلك بقناطر السباع.

وكان السلطان الناصر يمر من فوق القناطر دائمًا في طريقه من قلعة الجبل إلى الأماكن الجديدة التي أنشأها شرق النيل. حيث قام بتحويل بستان بجوار منطقة السيدة إلى ميدان عظيم أسماه "الميدان السلطاني" كان يتردد عليه كثيرًا للاحتفالات واللقاءات. ومن أجل الوصول من موضع إقامته في القلعة إلى الميدان السلطاني الجديد، لا بد وأن يمر بفرسه وموكبه من فوق قناطر السباع.

القناطر عالية جدًّا، ويشتكي الناصر من أنها تؤلم ظهره في الصعود والنزول من عليها. فقرر أن يهدمها ويبنيها مرة أخرى. في حقيقة الأمر، كان ذلك مجرد حجة اتخذها الناصر من أجل بناء قناطر جديدة تحمل اسمه هو، وليس اسم بيبرس. يتضايق الناصر من رؤية اسم بيبرس وسباعه المنصوبة كلما مرّ من فوق القناطر، وهو الآن في أوج سطوته في ولايته الثالثة. لم تكن غيرة الناصر من بيبرس سرًّا، الجميع عامة وخاصة يعرفون سبب المشروع. كتب المقريزي:

"فتضرّر من علوّها، وقال لأمراء إنّ هذه القنطرة حين أركب إلى الميدان وأركب عليها يتألم ظهري من علوّها، ويقال إنه أشاع هذا، والقصد إنما هو كراهته لنظر أثر أحد من الملوك قبله، وبغضه أن يذكر لأحد غيره شيء يعرف به، وهو كلما يمرّ بها يرى السباع التي هي رنك الملك الظاهر، فأحب أن يزيلها لتبقى القنطرة منسوبة إليه ومعروفة به، كما كان يفعل دائمًا في محو آثار من تقدّمه وتخليد ذكره، ومعرفة الآثار به ونسبتها له".

استدعى الناصر والي القاهرة، وأمره بإزالة القناطر وبناء محلها واحدة أوسع منها بحوالي 6 أمتار لخدمة عدد أكبر من العابرين فوقها بدوابهم وحتى تسع موكبه الكبير عندما يمر عليها، وبالتأكيد أقصر في الارتفاع. نفذ الوالي الأوامر، وانتهى من البناء على أجمل وجه في عام 1335م.

ولكن الوالي فعل شيئًا آخر لفت نظر العامة. لما انتهى من البناء، لم يُعد وضع تماثيل السباع عليها مرة أخرى. العامة يلحظون غياب سباع بيبرس وبالطبع يفهمون السبب وراء ذلك. تعرض أحد الأمراء المقربين للناصر لوعكة صحية، ونزل للميدان السلطاني وأقام به لبعض الوقت، وسمع ما يقوله الناس عن السباع. سمعهم يقولون إن الناصر أمر الوالي بتكسير السباع ورميها في المياه، حتى لا تُعرف القناطر إلا باسمه. لما شُفى من مرضه، صعد هذا الأمير إلى قلعة الجبل، وحكى للسلطان.

"امتغص" الناصر من لغط العامة عليه، أي أصابه المغص في بطنه وهو يسمع كلامهم من صاحبه. فأحضر الوالي وأمره بإعادة السباع وتركيبها في محلّاتها التي اعتاد العامة رؤيتها فيها.

حكى المقريزي ما صار وقال:

"وكان الأمير الطنبغا الماردينيّ قد مرض ونزل إلى الميدان السلطانيّ، فأقام به ونزل إليه السلطان مرارًا، فبلغ الماردينيّ ما يتحدّث به العامّة من أن السلطان لم يخرّب قناطر السباع إلا حتى تبقى باسمه، وأنه رَسم لابن المروانيّ أن يكسر سباع الحجر ويرميها في البحر. واتفق أنه عوفي عقب الفراغ من بناء القنطرة، وركب إلى القلعة، فسُرّ به السلطان، وكان قد شغفه حبًّا، فسأله عن حاله وحادثه، إلى أن جرى ذكر القنطرة، فقال له السلطان: أعجبتك عمارتها، فقال والله يا خوند، لم يُعمل مثلها، ولكن ما كملت. فقال كيف؟ قال السباع التي كانت عليها لم توضع مكانها، والناس يتحدّثون أن السلطان له غرض في إزالتها لكونها رنك سلطان غيره، فامتغص لذلك وأمر في الحال بإحضار ابن المروانيّ وألزمه بإعادة السباع على ما كانت عليه، فبادر إلى تركيبها في أماكنها".

ومن وقتها بقيت على اسمها الذي نعرفه اليوم، قناطر السباع!

لا تنتهي قصة السباع هنا، يرى شيخ متشدد اسمه محمد، ومعروف باسم صائم الدهر أنها تماثيل مثل الأوثان. يخبرنا المقريزي أن الشيخ قام بتشويه وجوهها، كما فعل متشددون آخرون مع تمثال أبو الهول بعد فتح مصر.

***

البركة الناصرية وهدم الكنائس

 

شارع الناصرية

بنى الناصر بجوار قناطر السباع ميدانًا كبيرًا أسماه "ميدان المهاري" ليستخدمه في سباقات الفروسية والعروض الضخمة، وأراد أن يبني "زريبة" للخيل والماشية بجواره. احتاج الكثير من الطين لتجهيزها، ومن هنا جاء قراره بحفر بحيرة أو بركة جميلة في المنطقة.

اختار الناصر مكان البركة بنفسه. ركب في موكبه وخرج وحدد الموضع، وجاء المهندسون وقاسوا مساحته. ثم أمر قائد الجيش بإعداد قائمة بأسماء جميع الأمراء عنده، وقسم الأرض المطلوب حفرها إلى أجزاء، ووزعها على الأمراء. نزل كل أمير بجنده وعماله ونصب لنفسه خيمة في المكان المُسند إليه حفره، وبدءوا المهمة.

يقف في وجههم عائق واحد: هناك كنيسة قائمة في وسط الأرض، اسمها كنيسة الزهري، ولا يستطيعون هدمها. الكنيسة بها رهبان يتعبدون وحولها بيوت مسيحيين كثيرة. حفروا ما حولها كله، واقتربوا منها، وصارت في منتصف الحفرة. ينتظرون أن تسقط بمفردها دون أن يهدموها، والمشروع انتهاؤه متعطل بسبب ذلك.

وفجأة في يوم جمعة، خرجت مجموعة من العامة والغوغاء على الكنيسة وهدموها. طوال الأيام السابقة، كان بعض العامة ينادون على الأمراء يحرضونهم على هدم الكنيسة، وهم يتجاهلونهم. حتى جاءوا في يوم جمعة، وفي عز وقت الصلاة وعمال الحفر والناس داخل المساجد غير منتبهين، وهدموها وقتلوا كل من كان فيها من مسيحيين وسرقوها، وهم يهتفون "الله أكبر" أثناء جريمتهم. كتب المقريزي:

"صارت العامّة من غُلمان الأمراء العمّالين في الحفر وغيرهم في كل وقت يصرخون على الأمراء في طلب هدمها، وهم يتغافلون عنهم. إلى أن كان يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة، والعمل من الحفر بطال، فتجمع عدّة من غوغاء العامّة بغير مرسوم السلطان وقالوا بصوت عالٍ مرتفع "الله أكبر"، ووضعوا أيديهم بالمساحي ونحوها في كنيسة الزهري وهدموها حتى بقيت كومًا، وقتلوا من كان فيها من النصارى، وأخذوا جميع ما كان فيها".

في حقيقة الأمر، لم يفعل الغوغاء ذلك بتلك الكنيسة فقط في هذا اليوم، بل في كل كنائس القاهرة جملة، هدموها أو أحرقوها ونهبوها. كانت تلك الحادثة الشهيرة لهدم الكنائس التي صارت في عام 1321م، تحديدًا في يوم الجمعة 9 من شهر ربيع الآخر سنة 721هـ. فقد كان هناك وزير مغربي مرّ من مصر في طريقه إلى الحج، ورأى المسيحيين في أفضل حال ومنهم الأثرياء الذين يمتطون الخيل الُمزينة، في حين أنه تصلهم في المغرب أخبار المسلمين في الأندلس والهجمات الصليبية عليهم هناك. فقام هذا الوزير بتحريض العامة على الهجوم على الكنائس.

القاهرة كلها تحترق، ووصلت أصوات صراخ الناس إلى الناصر وهو جالس في قلعة الجبل. الفوضى تعم كل المناطق كأنه يوم القيامة. في منطقة السيدة زينب، دمَّروا وسرقوا كل كنائس الحمراء وقناطر السباع. ومنهم كنيسة للبنات، كسروا أبوابها وأخذوا الفتيات سبايا منها وعددهم يزيد على ستين بنتًا. كتب المقريزي:

"وهدموا كنيسة بومنا التي كانت بالحمراء، وكانت مُعظَّمة عند النصارى من قديم الزمان، وبها عدّة من النصارى قد انقطعوا فيها، ويحمل إليهم نصارى مصر سائر ما يحتاج إليه، ويبعث إليها بالنذور الجليلة والصدقات الكثيرة، فوجد فيها مال كثير ما بين نقد ومصاغ وغيره، وتسلق العامّة إلى أعلاها وفتحوا أبوابها وأخذوا منها مالًا وقماشًا وجِرار خمر، فكان أمرًا مهولًا. ثم مضوا من كنيسة الحمراء بعد ما هدموها إلى كنيستين بجوار السبع سقايات تعرف إحداهما بكنيسة البنات، كان يسكنها بنات النصارى وعدّة من الرهبان، فكسروا أبواب الكنيستين وسبوا البنات وكنّ زيادة على ستين بنتًا، وأخذوا ما عليهنّ من الثياب ونهبوا سائر ما ظفروا به، وحرّقوا وهدموا تلك الكنائس كلها، هذا والناس في صلاة الجمعة، فعندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولًا كبيرًا من كثرة الغبار ودخان الحريق ومرج الناس وشدّة حركاتهم، ومعهم ما نهبوه، فما شبه الناس الحال لهوله إلّا بيوم القيامة، وانتشر الخبر وطار إلى الرميلة تحت قلعة الجبل، فسمع السلطان ضجة عظيمة ورجة منكرة أفزعته".

غضب الناصر غضبًا شديدًا، وأخرج أربع فرق من الجيش مع أمرائهم فورًا لإيقاف الغوغاء بالقوة. أمرهم بقتل من يجدونه متورطًا بدون أدنى رحمة وبدون عفو. لما واجه الأمراء العامة، وجدوا عددهم كبير جدًّا ومنتشرًا، وإن ضربوهم سيموت خلق كثير. امتنعوا عن سفك الدماء واكتفوا بأن أخافوا الناس وتركوهم يفرّون هاربين من أمامهم. كتب المقريزي:

"تزايد غضب السلطان وهمّ أن يركب بنفسه ويبطش بالعامّة، ثم تأخر لمّا راجعه الأمير أيدغمش ونزل من القلعة في أربعة من الأمراء إلى مصر.. فجرّد أيدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامّة، فوجدوا عالمًا لا يقع عليه حصر، وخاف سوء العاقبة، فأمسك عن القتل وأمر أصحابه بإرجاف العامّة من غير إهراق دم، ونادى مناديه: من وقف حلّ دمه. ففرّ سائر من اجتمع من العامّة وتفرّقوا، وصار أيدغمش واقفًا إلى أن أذّن العصر خوفًا من عود العامّة، ثم مضى وألزم والي مصر أن يبيت بأعوانه هناك، وترك معه خمسين من الأوشاقية. وأما الأمير ألماس فإنه وصل إلى كنائس الحمراء وكنائس الزهري ليتداركها، فإذا بها قد بقيت كيمانًا، ليس بها جدار قائم، فعاد وعاد الأمراء فردوا الخبر على السلطان وهو لا يزداد إلا حنقًا، فما زالوا به حتى سكن غضبه".

اكتمل حفر البركة الناصرية. تم نقل كل ما فيها من طين للزريبة العظيمة، وأجريت إليها المياه حتى امتلأت. بلغت مساحتها سبعة أفدنة كاملة، وبنى الناس حولها البيوت الفخمة الجميلة.

اندثرت تلك البركة اليوم، ومحلها شارع الناصرية الشهير في السيدة زينب.

***

مرضعة قلاوون

مسجد الست مسكة مرضعة قلاوون

أعطى الناصر محمد بن قلاوون مرضعته ومربيته أموالًا كثيرة جعلتها من أكثر أهل الحُكم ثراء، ومنحها قطعة أرض كبيرة بجوار البركة الناصرية الجديدة لتعميرها. بنت الست مسكة على تلك الأرض مسجدًا عظيمًا، وسرعان ما حضر الكثير من أصحاب النفوذ السياسي والأعيان ثم تبعهم العامة للبناء والحياة حوله في المنطقة.

الست مسكة في الأصل جارية مغولية اسمها جلشانة أو حدق، حضرت من بلادها البعيدة مع الأميرة التي سيتزوجها المنصور قلاوون. كانت مقربة جدًّا لأم الناصر، فأسندت إليها رضاعته وتربيته، وستظل بجواره بقية عمره وهو يصعد إلى كرسي السلطنة ويفقده مرارًا حتى ثُبت عليه. ويقال إنها من شدة ولائها له اختارت أن تذهب معه إلى السجن لتخدمه فيه.

في أوج سلطته، عيَّنها الناصر "قهرمانة" للقصر السلطاني، تقوم على تنظيم شؤون الحريم وتربية أبنائه وتنظيم الأعراس والحفلات الكبرى في الأعياد والمواسم، تتحدث بشكل مباشر مع الوزراء وقادة المماليك في دولته.

لما أعطاها الناصر قطعة أرض "حكر" في منطقة السيدة، والحكر هو أرض لا يتملكها من يحوزها وإنما ينتفع بها أو يوقف منها على أعمال الخير، كانت في الأصل بساتين غير مأهولة. فاختارت فيها نقطة مرتفعة مشرفة على منظر جميل، وبنت عليها مسجدًا ضخمًا، أسماه الناس مسجد "الست مسكة". أقيمت أول صلاة جمعة في مسجدها في عام 1340م، في شهر جمادى الآخرة من سنة 741هـ.

ثم أخذت تستخدم مسجدها كقاعدة لتوزيع الصدقات السخية على الفقراء بشكل يومي، ويقال إنها كانت تعطر الأموال بالمسك قبل توزيعها ولذلك لقبَّها العامة باسم الست مسكة.

جذب مشروع السيدة القوية الكثير من أمراء المماليك والأثرياء للبناء حوله، أنشؤوا البيوت الفخمة والحمامات الفاخرة، وانتقلوا للإقامة بجواره مع عائلاتهم في شوارع وحارات جديدة متشابكة، منهم حارة حملت اسمها: " حارة مسكة " والمسجد يقع على ناصيتها. تمددت حوله الأسواق العامرة، حتى أعطى الناس للشارع الذي يقع فيه المسجد اسم " سكة سوق مسكة ".

كتب المقريزي:

"فلما عمَّرت الست مسكة في هذا الحكر الجامع، بنى الناس حوله حتى صار متصلًا بالعمارة من سائر جهاته، وسكنه الأمراء والأعيان وأنشؤوا به الحمّامات والأسواق وغير ذلك."

مرت عشرات السنوات، وتحولت الشوارع حول المسجد من مساكن نخبة إلى بيوت فئات وطبقات أخرى. يسكن حوله في زمن المقريزي عامة وأناس من السودان، ويأوي إليه أيضًا بعض من أهل "الفواحش" والخارجين. صار سوق الست مسكة كبيرًا ومزدحمًا جدًّا، ولا يستطيع محتسب القاهرة، أي المفتش الرسمي على الأسواق، مراقبته كما ينبغي في حملاته اليومية لمنع الغش ومعاقبة المخالفين للقانون. اضطر المحتسب إلى تعيين نائب له يقيم به طوال الوقت. كتب المقريزي:

"فبنى الناس حوله، وأكثر من كان يسكن هناك السودان، وبه يتخذ المزور مأوى أهل الفواحش والقاذورات، وصار به عدّة مساكن وسوق كبير. يحتاج محتسب القاهرة أن يقيم به نائبًا عنه للكشف عمَّا يباع فيه من المعايش."

امتدت الحياة بالست مسكة وتقدمت في السن، صارت امرأة عجوزًا، بينما تتمتع بالمناصب العالية والثروة التي لا تنتهي، وأعمال البر والمعروف التي تقدمها إلى أعداد غفيرة من الفقراء كل يوم لا تتوقف. بمرور الزمن حوَّر الناس اسمها من قهرمانة وجلشانة إلى قرشانة، وصار لقب مرضعة قلاوون أو قرشانة يستخدمه العامة للإشارة إلى أي سيدة كبيرة السن وقوية حتى يومنا هذا.