مراجعات
زكريا صادق الرفاعيالمعادي... جزء من تاريخ عالمي
2025.11.08
مصدر الصورة : آخرون
المعادي... جزء من تاريخ عالمي
ربما يبدو مدهشًا أن تحظى نشأة ضاحية المعادي وتطورها العمراني بدراسة موسعة لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث، قدمتها الباحثة «أناليس كينكل» لجامعة نيوجرسي عام 2013. لكن سرعان ما يتضح أن العمل لا يقتصر على تسجيل جانب من التاريخ العمراني للقاهرة فحسب؛ فالتفاصيل المتعلقة بدوافع تأسيس المعادي وأهدافها، فضلًا عن هويتها العمرانية والاجتماعية منذ نشأتها، جعلت من هذه الدراسة نموذجًا فريدًا يجمع بين التاريخ المحلي، بما يتضمنه من متغيرات اقتصادية واجتماعية شهدها المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبين السياق العالمي الذي يعرض أثر شبكات وتحالفات رأس المال والامتيازات الأجنبية في تلك المرحلة.
تأتي الدراسة في بناءٍ تاريخي محكم، وإن شابها شيء من الإطالة والتكرار أحيانًا، وقد اعتمدت الباحثة على مصادر غنية ومتنوعة، من بينها مجموعة الكتب النادرة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، والروايات الشفوية لعدد من قدامى سكان المعادي داخل مصر وخارجها، إلى جانب المادة الأرشيفية الثرية في مركز دراسات الشرق الأوسط بكلية سانت أنطوني بجامعة أكسفورد. وقد وثّقت كينكل دراستها بكمٍّ وافر من الرسوم والبيانات والصور النادرة التي أضفت على عملها بعدًا بصريًّا وتوثيقيًّا مميزًا.
البدايات
استمدت ضاحية المعادي اسمها من قرية «المعادي» أي المراكب، ومفردها «معدية» باعتبارها نقطة جغرافية للعبور من الضفة الشرقية للنيل إلي الضفة الغربية والاتجاه صوب الجيزة وصعيد مصر، وكان لإنشاء خط سكة حديد حلوان المار بها منذ عام 1888 ثم إنشاء محطة مترو المعادي لاحقًا في عام 1909 دور كبير في نشأتها وتطورها، وكانت الخطوة الأولى هي إنشاء شركة أراضي الدلتا في عام 1904، وكان الهدف منها إنشاء مناطق سكنية للعاملين بشركة الدلتا للسكك الحديدية وكلتاهما مسجلة كشركة إنجليزية، حيث اشترت الشركة 700 فدان لتكون قاعدة لتوسعها في جنوب القاهرة، وتنبأت جريدة «المقطم» اليومية على لسان مالكها فارس نمر المعروفة بموالاتها لبريطانيا، أن تلك الأراضي ينتظرها مستقبل كبير، فكيف تأسست شركة الدلتا؟ وما هي أهدافها كشركة استثمارية إنجليزية في مصر؟ وما علاقتها بضاحية المعادي؟
إن التساؤلات السابقة تستدعي إلى الذاكرة على الفور سيرة السير «أوكلاند كلفن» (1838-1908) باعتباره أحد المؤسسين وأول من شغل منصب المدير التنفيذي لشركة الدلتا، وقد وصل الرجل إلى مصر قادمًا من الهند في يناير من عام 1878 وكان هدفه البحث في مالية البلاد، وكيفية فرض مزيد من الضرائب، ووجد نفسه يعمل وسط مصالح خارجية وقوى متضاربة، فهناك المصريون والإنجليز والفرنسيون والعثمانيون، وكان شاهدًا علي تدهور أحوال البلاد وزيادة النفوذ الأجنبي وتصاعد المد القومي، ثم الاحتلال البريطاني، وادعى أن القومية الليبرالية ظهرت بتأثير الأوروبيين في مصر وفي رأيه أن نجاح الإصلاح يعني مزيدًا من اندماج الأوروبيين في المجتمع المصري.
كما رأى "كولفن" أن الحكومات الأوروبية يجب أن تتقارب أكثر مع زعماء الحركة القومية حتي يمكن منعها ومقاومتها ونجاح مصر في المستقبل مرهون في نظره بتبني النموذج الغربي، وعندما قامت الثورة العرابية رأى أن التدخل العسكري هو الحل لحسم الأزمة وبعد غزو مصر بقليل انتقل للعمل في الهند واعتبر أن الاتفاق الودي مع فرنسا خطوة ناجحة لتخلص مصر من قبضة القوى الدولية وأدواتها الممثلة في الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة، وبعد رحلة عمله في مصر التي استمرت خمس سنوات مراقبًا للدَّين العام وممثلًا للحكومة البريطانية عاد "كولفن" للعمل مجددًا في الهند إلى أن استقال من الخدمة المدنية في عام 1892 وقد شارك في عدة شركات أجنبية في مصر في الوقت الذي أنجز فيه كتابه المعروف "بناء مصر الحديثة" وصدر في عام 1906 وكان دعاية ودعوة لبقاء الاحتلال البريطاني في مصر.
ومنذ توليه لشركة الدلتا للأراضي في عام 1904 نسج "كولفن" شبكة واسعة من العلاقات في مصر وكان من أقوى الرجال الذين أداروا الشركة، ومحط اهتمام الصحافة المصرية في حركاته وسكناته وخطاباته وأحاديثه في لندن والقاهرة،، وكان مؤمنًا علي غرار كرومر بالإصلاح الإمبريالي وإدارته لعمل خاص به في مصر تعني أنه استفاد من الامتيازات الأجنبية التي طالما انتقدها، وإلى جانب "كولفن" كان هناك السير ألوين بالمر (1852-1906) وهو من المستشارين الماليين للخديو إسماعيل منذ عام 1877 وجاء "بالمر" إلى مصر أيضًا من الهند في عام 1895 وقد ساعد في تأسيس البنك الأهلي وكان أول محافظ له منذ عام 1898 إلى عام 1906 وكان ذلك دليلًا علي انخراط الإدارة البريطانية في المؤسسات المالية المصرية وتدخلها بشكل مباشر، ونجح البنك في تكوين صلات مالية قوية بعناصر محلية وإقليمية وكان المحرك الرئيس للبنك ونشاطاته العائلات اليهودية المصرية البارزة وكان "بالمر" شريكًا لهم وابتعد الأثر البريطاني عن القيود الرسمية وصار أكثر اعتمادًا والتصاقًا بالقطاع الخاص إذ كان البنك في نهاية المطاف مصريًّا بالاسم فقط وسار في نهجه على غرار بنك بريطانيا وتحكم في التمويل والأرباح كمؤسسة خاصة لها التزامات عامة وكان منطقيًّا أن يولي اهتمامه بمحصول القطن الأكثر قيمة في التصدير.
وكانت شركة الدلتا هي الثمرة الأولى لنشاط البنك الأهلي وكانت أصابع "بالمر" وراء مشروع المعادي المجسد لعالم الأعمال ذات الطابع الدولي، واعتمدت الشركة بدورها على اليهود المصريين في تنمية علاقاتها المالية وعن طريقهم جلبوا رأس المال الأوروبي للقاهرة كما كان للشركة شركاء آخرون من الليفانت (مدن شرق البحر المتوسط) وهم غالبًا من المستفيدين من الامتيازات الأجنبية، فمنذ أواخر القرن التاسع عشر كانت أسر "سوارس" و"قطاوي" و"موصيري" و"منشه" و"رولو" لها بنوكها مثل بنك أبناء سوارس وشركائهم التي كانت وسيطًا بين رأس المال الأجنبي للاستثمار في مصر وبعد انضمام تلك الأسر إلى البنك الأهلي عمل "بالمر" معهم في شركة الدلتا وباعوا للشركة الأراضي اللازمة حيث كانت بحوزنهم بالفعل، كما شاركوا أيضًا في مشروع بناء خزان سد أسوان ومشروع بيع الدائرة السنية وانتقلت حيازة الدائرة إلى الحكومة المصرية ووضعت تحت إدارة مصرية بريطانية فرنسية مشتركة وباعت 300 ألف فدان للشركات الخاصة واستطاعت شركة الدائرة السنية لمتد ومقرها لندن أن تكون تحت حماية المحاكم المختلطة من ضمان البيع نظير 6 ملايين جنيه إسترليني وتلك الشركة كانت ملكًا "لإرنست كاسل" وهو يهودي بريطاني ثري و"سوارس" و"قطاوي" وكان نصيب "كاسل" من الصفقة 50% و"سوارس" 25% و"موسى قطاوي" و"إرنست كرولر" 25% وأول رئيس لها هو "بالمر"، ومن ثم فإن تحالف العائلات اليهودية سوارس ومنسه وقطاوي ورولو وموصيري ظل مهيمنًا على الحياة الاقتصادية والمالية وكان لهم نفوذ بالقصر عن طريق "فالنتي رولو" و"أليس قطاوي" وصيفات الملكة.
وقد تحدث كولفن عن نجاح شركة الدلتا وأنها حققت أرباحًا نحو سبعة ملايين قسمت مناصفة مع الحكومة المصرية ولم يذكر أن تلك الأرباح وارتفاع ثمن الأرض كان مرتبطًا بارتفاع ثمن القطن من قبل البنك الأهلي ومن يديرونه هم من يمتلكون أيضًا شركة الدائرة السنية واستفادوا من بيعها واعتبر كولفن أن ذلك النجاح هو بفضل الإدارة البريطانية، واعتبر القائمون على شركة الدلتا أن ضاحية جاردن سيتي التي طور تخطيطها السير "إيبنزر هوارد" نموذجًا مهمًّا وجديرًا بأن يحتذى وقد لاقت تصميماته ذيوعًا وانتشارًا للمزاوجة بين الريف والمدينة، ومن ثم كانت المعادي للأغنياء ليست فقط جزءًا من مسطح القاهرة ولكنها جزء أيضًا من النسيج الاجتماعي وفي عام 1905 بعد عام من إنشاء شركة الدلتا للأراضي شرع البلجيكي البارون "إدموند إمبان" في تاسيس ضاحية هيلوبوليس على بعد ستة أميال من شمال شرق القاهرة.
الهُوية العمرانية
نعني بالهُوية هنا هوية النسيج العمراني بمكوناته وخصائصه المختلفة في التصميم والتنفيذ ثم تفاعل ذلك مع السكان ومن ثم فالهُوية هنا عمرانية واجتماعية معًا، وقد تحولت المعادي منذ منتصف العشرينيات من نقطة جغرافية إلى موطن للمهندسين والمحامين الإنجليز والأمريكان والعلماء الألمان والأثريين الفرنسيين وملاك الصحف السوريين والنبلاء العثمانيين والجنود الأستراليين والمديرين من المصريين، واتسعت بوجود الرعايا الأجانب في مصر وخططت وفقًا لتخطيط المدن الإنجليزية فانطلقت الطرق الرئيسة من ميدان محطة المترو مؤدية إلى ميادين فرعية وطرق فرعية وشبكة من الطرق المتعامدة علي أطراف الضاحية كما قسمت إلى بلوكات متساوية في المساحة، وسميت أغلب الشوارع والميادين بأسماء يهودية، بالمر، كولفن، سوارس، وليماسون وزرعت أشجار الجازورين على الحدود لصد الرياح والرمال وأشجار الصمغ لطرد الحشرات الطائرة كما عرفت بانتشار حدائق المانجو والجوافة، وفي عام 1921 افتتح نادي المعادي الرياضي بإدارة إنجليزية ثم تلا ذلك إنشاء الكنيسة الإنجيلية في عام 1930 ثم المدرسة الإنجليزية في عام 1932 والمدرسة الأمريكية لاحقًا في عام 1947.

وعقب وفاة "بالمر" في عام 1906 تم اختيار "جاك وليماسون" ليحل محله وقد قضى حياته في الليفانت ثم جاء إلى القاهرة بعد أن صارت جاذبة للأجانب وكان هو جزءًا من المجتمع العثماني المقيم في الموانئ ويعمل في التجارة مستفيدًا من الامتيازات الأجنبية وتنقل من أزمير إلى قبرص ثم القاهرة وكان يجيد اليونانية والعربية وقيمته أنه جلب معه شبكة من علاقات الليفانت التجارية التي اعتبرت مصر مركزًا تجاريًّا إقليميًّا، كما كان لوليامسون علاقات نافذة مع كبار الموظفين الإنجليز وعلي رأسهم كتشنر سردار الجيش المصري ويرجع الفضل إلى وليامسون في نقل قيادة الشركة من لندن إلى القاهرة في عام 1907، كما استقر مع أسرته في المعادي في عام 1913، ومن الأسماء المهمة في مسيرة الشركة "ألكسندر آدامز" وكان مهندسًا للسكك الحديدية وخدم مع السير "أوكلاند كلفن" في بورما من عام 1893-1899 ثم جاء إلي مصر والتحق بشركة الدلتا وصار مسؤولًا عن تصريف الشؤون اليومية لها وعندما نمت الشركة بعد خمس سنوات كان هو همزة الوصل بين شركة الدلتا للأراضي وشركة الدلتا للسكة الحديد وكان من أوائل القاطنين بالمدينة، ومن الشائع أنه وراء الفكرة لتطبيق نموذج جاردن سيتي عند تخطيط المعادي.

وفي عام 1950 كانت الجالية البريطانية بالمعادي كبيرة وتم تأسيس كلية فيكتوريا بها لتكون على النمط الإنجليزي وكانت متاحة للطبقات العليا والوسطى ومن طلابها إدوراد سعيد وطلاب من أسرة الصباح والغانم بالكويت وشقيق سلطان زنزبار وأبناء أسرة المرغني والمهدي بالسودان.

ومنذ حقبة السبعينيات صارت للمعادي هوية مغايرة تمامًا وعصفت المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بهويتها التقليدية الهادئة والخاصة بالطبقة العليا، وفي ختام دراستها استعانت المؤلفة بفقرة موحية من كتاب "سمير وحيد رأفت" الصادر في عام 1994 ويبدو أنه من قدامى سكان المعادي الذي وضع في البداية لكتابه عنوان "المعادي الجميلة" ولكنه صدر في نهاية المطاف بعنوان "المعادي (1902-1962) المجتمع والتاريخ"، لضاحية بالقاهرة فالأماكن تحيا بذاكرتها الممتدة.