عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

ذخائر

إبراهيم عبد القادر المازني

كنتُ أكتب التقارير عن نفسي.. للبوليس!

2025.11.08

مصدر الصورة : آخرون

كنتُ أكتب التقارير عن نفسي.. للبوليس!

 

كنت في الحرب العالمية الأولى أسكن بيتًا صغيرًا لي فيه جار طيب العشرة، سريع النجدة، وكنت قد تركت وزارة المعارف واشتغلت بالتعليم الحر في مدرسة غريبة، وخطر لي أن أطلب من «المحافظة» ترخيصًا بإصدار مجلة شهرية تبحث في الأدب دون السياسة أو الدين، وما كدت أفعل حتى رأيت «بوليسًا سريًّا» [i] لا يمكن أن يغمض أمره على أعمى، يتعقبني من بكرة الصباح إلى وقت النوم، يلازمني بيتي وأنا فيه، ويبرحه معي، ويرجع ورائي، ويجاورني في المقهى والترام وفي كل مكان. إلا داخل البيت أو داخل المدرسة. وقد ضقت به ذرعًا فاتفقت معه على أن يتركني أذهب وأجيء بلا مطاردة، وأنه يبقى هو بباب البيت أو في «السلاملك» كما يشاء، وعليَّ طعامه، وفي آخر كل يوم أقدم له «التقرير» اللازم.

وأقبلت ظهر يوم على البيت لأتغدى فإذا بصاحبنا البوليس السري يلقاني على مسافة ميل من البيت بالعتاب، ويسألني كيف طاوعني قلبي على أن أصنع به هذا؟ وما كنت صنعت شيئًا فاستغربت، واستوضحته الأمر، فقال إنه شعر بالبرد من طول الجلوس أمام الباب فأراد أن يلتمس الدفء في «السلاملك» وإذا بكلب ضخم عقور ينبح، ويكاد يفترسه فخرج الرجل يعدو، ووقف ينتظرني لأقيه شر هذا الكلب الضاري، فزاد عجبي وخفت أيضًا. فما كنت أعلم أن في البيت كلبًا، فمن أين جاء؟

واقتربنا من الباب، على حذر، ثم وقفنا، فجاءنا صوت الكلب مرة من هنا، ومرة من هنا. فعلمنا أنه مرسل غير مقيد، وتلك مصيبة، إذ كيف أدخل؟ ودققت الباب، فنبحنا الكلب نبحة تركتني أرجح وأنتفض من الرعب، أما صاحبي فولى الأدبار! ورفعت وجهي إلى الدور الأول وناديت، فأطل برأسه من النافذة وهو يضحك فسألته «كلبك»؟

قال «آه، هل ذهب البوليس؟» قلت «هو هناك» عند رأس الشارع، ما سؤالك عنه؟» قال «عجيب» وهل جئت بالكلب إلا من أجله؟» قلت «لست فاهمًا، على كل حال يحسن أن تربط الكلب أولًا حتى أدخل فإني أتضور جوعًا» قال: «لا تخفه، ألق إليه لقمة أو عظمة» قلت «يا أخي، وهل أنا أحمل اللقم والعظام في جيوبي؟ ووالله لو كان معي لقمة لأكلتها واستغنيت عن دخول البيت».

انزل اربطه من فضلك، ففعل وقال لي ونحن نصعد، إنه ملَّ وجود هذا البوليس السري فجاء بهذا الكلب من أرمنت، وأوصاه به خيرًا أو شرًّا ليقصيه عن البيت، ويريحني من ثقله.

قلت، وأنا أضحك: «كان ينبغي أن تسلط الكلب على من أوفد لمرافقتنا هذا البوليس السري»، ولم يستطِع الكلب أن يعفيني من البوليس السري، وإنما استطاع أن يعذبني ويشقيني فصارت المسألة كل يوم هي: كيف أدخل أو أخرج كل يوم وأن آمن شر هذا الكلب الذي يأبى أن يعرف، أو يألف أحدًا، غير صاحبه؟ وكف إخواني عن زيارتي، وانقطعت مائدة السلاملك، فما كان أحد يجرؤ على الاقتراب منه، وكثر تخلفي عن المدرسة وتأخري عن مواقيت الدروس فيها، لأني كنت أحب أن أخرج، فأجد الكلب ولا أجد صاحبه، وكثيرًا ما كان صاحبه ينسى أن يقيده، وعلى أن القيد على متانته -فقد كان سلسلة من الحديد- لم يكن يطمئن، فقد كان الكلب ضخمًا قويًّا، ووحشًا ضاريًا، فحدث يومًا أن رأى امرأة داخلة، فهم بها وهو مقيد، فلم يقطع السلسلة، ولكنه حطم الدرابزين وجره وراءه، فلا أمان منه. وكنت أتودد إليه، وأدنو منه وصاحبه معي، وأتشجع وأقدم له الطعام، فلا يزداد إلا نفورًا مني وشكًّا في أمري. فلم يبقَ مفر من البت في الأمر على نحو ما: فخيرت صاحبي بيني وبين الكلب، وقلت له إذا أردت أن نظل جيرانًا، فليذهب الكلب، وإلا فأنا ذاهب. ولكنه كان قد أحبه وتعلقت نفسه به، فوضع له كمامة، تقي الناس شر أنيابه، ولكنها لا تقي أحدًا أن يدفعه الكلب بجسمه فيطرحه ويدهوره على الأرض، فلبثنا نلقى منه الأمرين حتى نفد الصبر فتركت البيت إلى سواه، وجاري يظهر الأسف ويقول إنه ما اتخذه إلا لخاطري. ومن الغريب أني ما كدت أنتقل إلى بيت آخر، وأستريح أنا وأهلي من هم هذا الكلب حتى باعه صاحبه!

فهو قد صدق حين قال إنه ما جاء به إلا لخاطري.


[i] نُشر في الأخبار بتاريخ 11 مايو 1946.