فنون
جونا جاردنرصفقة «وارنر-نتفليكس».. الكارثة أعمق مما تتخيل
2025.12.20
صفقة «وارنر-نتفليكس».. الكارثة أعمق مما تتخيل
أثارت الأنباء التي تفيد باعتزام «نتفليكس» الاستحواذ على شركة «وارنر براذرز» في صفقة ضخمة تناهز قيمتها 82.7 مليار دولار، موجة عارمة من القلق، طالت أروقة صناعة الترفيه ودهاليز واشنطن على حد سواء. وقد أعرب سياسيون من كلا الحزبين، بدءًا من إليزابيث وارن ووصولًا إلى مايك لي، عن توجسهم العميق إزاء احتمالية اندماج اثنين من أعتى تكتلات السينما والتلفزيون في العالم.
ينصب جل هذا القلق -وعن حق- على مخاوف من أن يفضي هذا الاندماج إلى احتكار صريح، ما قد يسفر عن تسريح الآلاف من وظائفهم، وتقليص عدد الأفلام والبرامج التلفزيونية المنتجة، وربما توجيه ضربة قاضية لقطاع دور العرض السينمائي المترنح أصلًا. ورغم أن هذه السيناريوهات جميعها تمثل نتائج مرجحة للاندماج، فإن الضرر الناجم عن هذه الصفقة قد يكون في حقيقة الأمر أشد وطأة وأكثر كارثية.
ثمة جوانب أقل تداولًا في منظومة أعمال «وارنر» باتت اليوم في دائرة الخطر جراء هذه الصفقة، وهو ما قد يخلف أثرًا مدمرًا على عالم السينما برمته. باختصار، من خلال شراء «وارنر براذرز» -التي تنضوي تحت مظلتها شبكة «إتش بي أو» (HBO) أيضًا- ستقوم «نتفليكس» بالاستحواذ على عدد من المشاريع التراثية العريقة التي دأبت لسنوات على محاولة تقويضها. وإذا ما قُدّر لهذا الاندماج أن يكتمل، فمن المرجح أن تنجح «نتفليكس» في وأد جهود جوهرية لحفظ التراث السينمائي، مما يضع تاريخ هذا الفن ومستقبله على المحك.
بمقتضى شروط الصفقة، ستؤول إلى «نتفليكس» ملكية كيان «وارنر براذرز» المُشكّل حديثًا، الذي يتألف بشكل أساسي من استوديوهات «وارنر» للأفلام والتلفزيون، وشبكة «إتش بي أو» (HBO)، ومنصة البث «إتش بي أو ماكس» (HBO Max). أما الشق الرئيسي الآخر من الشركة، والمتمثل في شبكات الكابل مثل «ديسكفري» و«سي إن إن»، فسيفصل ليغدو شركة مستقلة.
بيد أن هناك استثناءً جوهريًا وحيدًا: قناة الكابل «تيرنر للأفلام الكلاسيكية» (TCM) مدرجة -في الواقع- ضمن حصة «وارنر براذرز» من هذا التقسيم. وتُعد «تي سي إم» كنزًا حقيقيًا لعشاق الفن السابع، إذ تأخذ بيد المشاهدين الشباب لتعرفهم على مجموعة مختارة بعناية فائقة من الأفلام الكلاسيكية والروائع المنسية.
في هذا العام فحسب، قدمت «تي سي إم» تكريمات مدروسة لنجوم رحلوا عن عالمنا، من أمثال جين هاكمان، وروبرت ريدفورد، وديان كيتون. كما استضافت سلسلتها «اثنان مقابل واحد» نخبة من المخرجين والممثلين وكبار نقاد السينما لبرمجة عروض مزدوجة، واضعة مكتبتها الكلاسيكية في حوار حي ومباشر مع فناني اليوم. وتواصل برامج «تي سي إم» المتخصصة، مثل «زقاق النوار» (Noir Alley) و«أحد الأفلام الصامتة» (Silent Sundays)، تسليط الضوء على أفلام أمريكية مذهلة طواها النسيان. كما شهد مهرجان «تي سي إم» في أبريل تكريمًا خاصًا لتقنية «فيستا فيجن» (VistaVision)، وهو تنسيق أفلام عالي الدقة طُرح عام 1954 لكنه هُجر إلى حد كبير بحلول أوائل الستينيات، وكان مثل حقل تجارب لأجهزة العرض التي استُخدمت لاحقًا لعرض نسخ جديدة من فيلم ليوناردو دي كابريو الذي نال استحسان النقاد هذا العام «معركة تلو الأخرى» (One Battle After Another)، الذي صُور بهذا التنسيق. وتشهد تقنية «فيستا فيجن»، المحبوبة لصورها المبهرة عالية الدقة، نهضة حاليًا مع تصوير أعمال مفضلة لدى النقاد مؤخرًا باستخدامها، مثل فيلم «الوحشي» (The Brutalist) وفيلم «بوجونيا» للمخرج يورجوس لانثيموس، فضلًا عن أفلام مرتقبة مثل سلسلة «نارنيا» للمخرجة جريتا جيرويج وفيلم توم كروز للمخرج أليخاندرو جي إيناريتو.
إذا ما نجحت «نتفليكس» أو «باراماونت» في الاستحواذ على «وارنر براذرز»، سيفقد الآلاف وظائفهم، وسينتج عدد أقل من الأفلام والبرامج، أما الأعمال التي سترى النور فستكون أكثر سطحية وبهتًا، وأشد اعتمادًا على الملكية الفكرية (IP) من أي وقت مضى.
وعلى الأرجح، لن تكون قناة «تي سي إم» مشروعًا مدرًا للأرباح؛ فالأفلام التي تُعرض عبر شاشتها تتخللها فواصل إعلانية محدودة للغاية، وتتقاضى رسومًا منخفضة من مزودي خدمة الكابل، الذين يتعين عليهم دفع مبلغ معين لكل قناة مقابل حقوق بثها. وعلاوة على ذلك، فإن التلفزيون الكبلي بحد ذاته بات يعيش في دوامة الموت، والفضل في ذلك يعود إلى «نتفليكس» نفسها بشكل كبير.
لقد وُضعت «تي سي إم» بالفعل على مقصلة الإلغاء من قبل؛ فعندما اندمجت «ديسكفري» مع «وارنر» في عام 2022، خطط الرئيس التنفيذي ديفيد زازلاف لإجراء تقليصات كبيرة في الشبكة، مُسرحًا 80 بالمائة من طاقم العمل، وكان يضمر على الأرجح تخفيضات أعمق للمستقبل. ولم تنقذ القناة إلا بفضل تدخل مخرجين كبار بوزن مارتن سكورسيزي، وستيفن سبيلبرج، وبول توماس أندرسون.
لكن الركون إلى حسن نية رئيس تنفيذي ليس سبيلًا مستدامًا للمضي قدمًا بالنسبة لـ «تي سي إم»، والأمور مرشحة للازدياد سوءًا مع انتقال الملكية. تسعى «نتفليكس» جاهدة للقضاء على صناعة الكابل، ومن المرجح ألا يكون لديها أدنى اهتمام بإدارة قناة كابل. وإن هي أبقت على «تي سي إم» من الأساس، فلن تكون سوى مجرد علامة تجارية، أو أيقونة لقسم داخل «نتفليكس» يعرض أفلامًا قديمة.
هذا هو الحال بالفعل على منصة «إتش بي أو ماكس»، فبدلًا من الاختيارات المدروسة والمنسقة التي تميز «تي سي إم»، والمحتوى الإضافي الممتاز كالمقابلات والمقدمات، والالتزام التاريخي بنفض الغبار عن الأفلام نادرة المشاهدة، تقدم قناة «تي سي إم» على منصة «إتش بي أو ماكس» للمستخدمين مجرد كومة عشوائية من الأفلام القديمة، من دون أي دليل يوجه المشاهد أو يرشده عما يبحث عنه. إنها تركز فحسب على العناوين البراقة، والأفلام الكلاسيكية ذائعة الصيت مثل «المواطن كين» و«الغناء تحت المطر»، وهي بالتأكيد أعمال سينمائية عظيمة، لكنها لا تشكل سوى نزر يسير من رسالة «تي سي إم» الشاملة.
وسيزداد الوضع سوءًا بلا شك في ظل خوارزمية «نتفليكس» التي يتشدقون بها. فبدلًا من الكلاسيكيات المغمورة -التي توضع في سياقها الصحيح ويؤطرها صناع أفلام وأساتذة ونقاد- سيُفرض على المستخدمين ببساطة مشاهدة ما تريد الخوارزمية لهم أن يروه. بعبارة أخرى، سنكون أمام مشهد يشبه الصفحة الرئيسية الحالية لـ «نتفليكس».
إن «تي سي إم» مورد أثمن من أن يُترك لسطوة دافع الربح. ينبغي فصلها لتغدو مؤسسة غير ربحية، تحتضنها منظمة عريقة مثل «معهد الفيلم الأمريكي»، أو تؤمم ببساطة. وفي حين أنه لا يوجد نظير يضاهي «تي سي إم» تمامًا، فإن العديد من الدول تمتلك صناديق وطنية للسينما. منظمات مثل «المركز الوطني للسينما والصورة المتحركة» (CNC) في فرنسا، و«معهد الفيلم البريطاني» في إنجلترا، و«تيليفيلم» في كندا، تضطلع بمهام حفظ الأفلام القديمة وتمويل الجديدة في آن واحد. ويمكن أن تكون «تي سي إم» المؤممة الخطوة الأولى نحو تأسيس كيان لا يكتفي بحفظ الأفلام القديمة، بل يقدم أيضًا تمويلًا حيويًا للفنانين الذين أوصدت في وجوههم أبواب نظام استوديوهات هوليوود، وهو نظام يبدو أنه يتداعى أمام أعيننا.
أرشيف «وارنر» السينمائي الضخم في مهب الريح
باعتبارها استوديو يمتد تاريخه لقرن من الزمان، تتحمل «وارنر براذرز» مسؤولية حفظ وصيانة آلاف الأفلام، بدءًا من الكلاسيكيات الخالدة وصولًا إلى الأعمال التي طواها الزمن. تحتفظ الاستوديوهات بكل ما يتعلق بالفيلم تقريبًا، من النسخة الأصلية (النيجاتيف) للعمل النهائي، إلى نسخ الاختبار واللقطات المحذوفة، وحتى الصور الدعائية.
وثمة مخاوف جدية بشأن ائتمان «نتفليكس» على هذه المواد. فبداية، وبينما قد يفترض المرء أن التقدم في الرقمنة قد ساهم في حفظ الأفلام، فإن الواقع يشير إلى العكس، فالملفات الرقمية تتلف وتتدهور بوتيرة أسرع من الفيلم المادي (الخام)، وتكون أكثر عرضة للمخاطر الناجمة عن الظروف البيئية كالحرارة والرطوبة وعوامل أخرى.
إضافة إلى ذلك، فإن ركيزة أساسية في حفظ التراث السينمائي تتمثل في ترميم الأفلام القديمة، وهي عملية باهظة التكلفة ومضنية. في الوقت الراهن، تمول الاستوديوهات هذا العمل لأنها تستطيع إعادة طرح الأفلام المرممة في دور العرض ضمن عروض استعادية، أو بيعها على أقراص «بلو راي» أو «دي في دي». وليس لدى «نتفليكس» أدنى اهتمام بأي من المسارين.
وفيما يتعلق بمسألة دور العرض السينمائي، فقد أفصح تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي لشركة «نتفليكس»، عن آرائه بوضوح لا لبس فيه. ففي الماضي، وصف التجربة الجماعية في قاعة السينما بأنها «فكرة عفا عليها الزمن». ورغم أن «نتفليكس» ترسل عددًا ضئيلًا من أفلامها إلى عدد محدود للغاية من دور العرض، فقد اعترف ساراندوس على مضض بأن «نتفليكس» اضطرت للقيام بذلك فقط «من أجل التأهل لجوائز الأوسكار».
إذن، القيمة الوحيدة للعرض السينمائي في نظر «نتفليكس» تنحصر في استيفاء متطلبات جوائز الأكاديمية. وقد تُرجم ذلك إلى إصدارات سينمائية رمزية ومحدودة لمنافسين على أوسكار 2025 مثل فيلم «فرانكنشتاين» للمخرج جييرمو ديل تورو، أو فيلم «أحلام القطار» (Train Dreams) الذي حقق نجاحًا في مهرجان صندانس. لكن جهود «وارنر» في حفظ الأفلام على مدى السنوات القليلة الماضية تضمنت نسخًا جديدة تمامًا بقياس 70 ملم لأفلام مثل «ليالٍ صاخبة» (Boogie Nights) و«شمالًا إلى الشمال الغربي» (North by Northwest)، وكلاهما جاب دور العرض في شتى أنحاء البلاد. كانت هناك عمليات ترميم بدقة «4K» لكل شيء، من رسوم «توم وجيري» الكلاسيكية إلى تحفة ستانلي كوبريك «باري ليندون». وفي الوقت ذاته، أصدرت علامة «أرشيف وارنر» لأقراص الـ «دي في دي» والـ «بلو راي» مجموعة واسعة من أفلام الغرب الأمريكي المنسية، وأفلام النوار، والمسرحيات الموسيقية، والكوميديا التهريجية، وغيرها من كنوز هوليوود القديمة. لا يحمل أي من هذا العمل ذرة قيمة بالنسبة لشركة «نتفليكس»، حيث سيُلقى بالفيلم القديم ببساطة في بحر محتواها المتلاطم ليختفي بنفس السرعة التي ظهر بها.
ومع استبعاد كل من الإصدارات السينمائية والوسائط المادية تحت مظلة ملكية «نتفليكس»، فإن فيلمًا قديمًا منسيًا، رمم ليعود إلى سابق عهده ومجده، لا يملك أي قيمة تذكر للشركة. وكما هو الحال، بالكاد تُظهر «نتفليكس» اهتمامًا ببرمجة حتى الأفلام القديمة الشهيرة، فقد تصدرت أخبار الشركة العناوين في وقت سابق من هذا العام حينما كُشف أن أقدم فيلم على الخدمة هو فيلم «اللدغة» (The Sting) من إنتاج عام 1973. فلماذا قد يتكبدون عناء وتكلفة ترميم فيلم قديم بينما مصيره المحتوم هو التلاشي في محيط محتواهم؟
لقد شهدنا مثالًا حيًا على مآلات هذا الأمر بعد اندماج ترفيهي ضخم في عصر البث الرقمي. فعندما استحوذت «ديزني» على مكتبة أفلام «توينتيث سينشري فوكس» الأسطورية في عام 2019، توقفت فورًا عن السماح لدور السينما المتخصصة في العروض الاستعادية بعرض كلاسيكيات فوكس. وهذا يعني أن عددًا هائلًا من عناوين «فوكس» الخالدة التي أضحت تحت قبضة «ديزني» -وهي ركائز أساسية للعروض الأرشيفية مثل «كائنات فضائية» (Alien)، و«كوكب القردة»، و«صوت الموسيقى»، و«موت قاسي» (Die Hard)، و«نادي القتال»، و«وحدي في المنزل»- قد سُحبت ببساطة من التداول على الشاشة الكبيرة لسنوات، ولم يُفرج عنها إلا مؤخرًا.
وفي توقيت يُعد فيه أحد الاتجاهات القليلة والمثيرة حقًا في عالم السينما هو الشعبية المتنامية لدور العرض الأرشيفية التي تعرض أفلامًا قديمة بنسخها الفيلمية الأصلية، فإن سحب مكتبة رئيسية كبرى من السوق سيكون بمثابة طعنة أخرى لصناعة دور العرض التي تبدو «نتفليكس» حريصة كل الحرص على تدميرها عن بكرة أبيها. وبينما كافحت دور السينما لابتداع حلول خلاقة لمشكلة إنتاج هوليوود المتدني (والمتناقص)، كانت سينما العروض الاستعادية نقطة مضيئة نادرة وسط الظلام. فقد ازدهرت دور عرض مثل «ميتروغراف» في نيويورك، و«نيو بيفرلي» في لوس أنجلوس، و«جمعية فيلادلفيا للأفلام» (PFS)، ومسرح «كوليدج كورنر» في بوسطن، ومسرح «ميوزك بوكس» في شيكاغو، حيث تدفق عشاق السينما الشباب لمشاهدة الأفلام القديمة على الشاشة الفضية. وقد سحرت عمليات إعادة الإصدار الأخيرة لأفلام تتراوح من «بين النجوم» لكريستوفر نولان (حصريًا بنسخة آيماكس 70 ملم) إلى «الفك المفترس» و«اقتل بيل»، جموع رواد السينما. والأهم من ذلك، تظهر الدراسات أن «جيل ألفا»، الذي يُفترض أنه جيل «مشوش بسبب يوتيوب»، يفضل في الواقع تجربة قاعة السينما على البث الرقمي، برغم ما قد يزعم ساراندوس عن كون التجربة الجماعية لقاعة السينما أمرًا «عفا عليه الزمن».
وبدلًا من ائتمان «نتفليكس» لتكون حارسة لقطعة محورية كهذه من المشهد الفني والثقافي الأمريكي، يجب تسليم زمام السيطرة على الأرشيف لمؤسسة أكاديمية مثل «جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس» (UCLA)، التي تضطلع بالفعل بجهود جبارة في حفظ الأفلام، جنبًا إلى جنب مع حقوق ترخيص الأفلام للعروض الأرشيفية وإصدارات الوسائط المادية، على غرار الطريقة التي تولت بها «وارنر» نفسها مسؤولية عدد من مكتبات الاستوديوهات القديمة.
الوسائط المادية.. الترياق لواقع البث المرير
وبالحديث عن أقراص الـ «دي في دي» والـ «بلو راي»، فإن أحد الجوانب الأقل شهرة في إمبراطورية أعمال «وارنر» هو شركة «خدمات توزيع الاستوديو» (SDS)، وهي شركة لإنتاج الأقراص المدمجة تمتلك «وارنر» نصفها بالشراكة مع «يونيفرسال». وتطرح «إس دي إس» جميع أفلام «وارنر براذرز» و«يونيفرسال» على أقراص، لذا إذا كنت تقتني الإصدارات المادية بدقة «4K» لأفلام مثل «مذنبون» (Sinners)، أو «معركة تلو الأخرى»، أو «أوبنهايمر»، فأنت تمتلك شيئًا صنعته هذه الشركة.
كما أنها تتعاون مع عدد من الشركاء الخارجيين، حيث تصنع أقراصًا لاستوديوهات مستقلة مثل «نيون» (فيلمي «طفيلي» و«أنورا»)، و«بلامهاوس» («اخرج» و«يوم موت سعيد»)، و«شاوت فاكتوري»، وهو موزع يصدر نسخًا خاصة من أفلام الكتالوج القديمة التي تتراوح من «رصاصة في الرأس» إلى الفيلم الحائز على الأوسكار «سبوتلايت» ومئات غيرها.
إن «نتفليكس»، في الجوهر، ستشتري حصة 50 بالمائة في أحد أكبر اللاعبين في مجال تسعى هي بنشاط لتدميره. وبينما صنعت الشركة اسمها في البداية من خلال هزيمة «بلوك باستر» في عقر دارها، عبر تأجير أقراص الفيديو بطريقة أكثر سهولة للمستخدم من عملاق الفيديو القديم، كان مؤسس «نتفليكس»، ريد هاستينجز، واضح الرؤية وثاقب النظر بشأن الهدف النهائي لشركتـه حين قال: «نحن لسنا في مجال أقراص الـ دي في دي. السبب الوحيد لامتلاكنا هذه الأقراص هو توسيع قاعدة العملاء لما نريد القيام به في النهاية، وهو البث الرقمي».
من بين آلاف الأفلام التي أطلقتها «نتفليكس»، حظي حوالي عشرة فقط بإصدار مادي ملموس. وهذا يبدو منطقيًا عند النظر في نموذج عملها، فبدلًا من الحصول على رسوم ترخيص من عملية شراء لمرة واحدة لقرص مدمج، يضمن نموذج «نتفليكس» تدفق أموالك إليهم شهريًا، بغض النظر عما إذا كنت تشاهد أيًا من أفلامهم أو برامجهم بالفعل أم لا.
وبينما قد لا تبدو الوسائط المادية مهمة للوسط السينمائي بقدر أهمية حفظ الأفلام أو ارتياد دور العرض، فإنها حيوية بالقدر نفسه في عصر البث. أولًا، تقوم منصات البث مثل «نتفليكس» بخلط وتغيير ما هو متاح على خدمتها بشكل متكرر، سواء بسبب صفقات الحقوق، أو اهتمام المشاهدين، أو تلاعبات الخوارزمية. فقط من خلال اقتناء نسخة مادية لفيلم ما، يمكن للمرء أن يطمئن بأنه سيمتلك دومًا الفرصة لمشاهدة ذلك الفيلم.
ثانيًا، تلعب الإصدارات المادية دورًا حيويًا في حياة محب السينما (السينفيلي) المعاصر. فمع إصدار هوليوود لعدد أقل وأقل من الأفلام الجريئة والمتحديّة، قد لا يتمكن الأشخاص الذين لا يقطنون المدن الكبرى من الوصول إلى دار عرض مثل «ميتروغراف» أو «ميوزك بوكس». ومع ذلك، بفضل «مجموعة كرايتيريون» (The Criterion Collection)، و«فينيجر سيندروم»، وموزعين مستقلين مماثلين، فإنهم يضمنون تدفقًا مستمرًا من إصدارات الكتالوج المثيرة والجريئة كل أسبوع، مغلفة بعناية ومطبوعة على أقراص عالية الدقة. وقد أصبحت «كرايتيريون» على وجه الخصوص الحارس الأمين لعدد من الأفلام والمخرجين والحركات الفنية التراثية الحيوية لثقافتنا.
الأمر لا يتعلق فقط بالإتاحة، بل هي مسألة جودة في المقام الأول. فبينما تقنية البث مذهلة، لا تزال جودة الفيديو متأخرة بمراحل عما تحصل عليه مع قرص «بلو راي» فائق الدقة (4K ULTRA HD). النطاق الترددي المحدود يعني أن الملفات الفعلية التي تبثها «نتفليكس» إليك يجب أن تكون مضغوطة بشدة، مما يفضي إلى صور أقل جودة. وبالنسبة للأفلام القديمة، مثل تلك القابعة في مكتبة أفلام «وارنر» الضخمة، تعمد «نتفليكس» إلى إزالة «حبيبات الفيلم» (Film Grain) ثم تضيف نسخة رقمية مصطنعة بدلًا منها، لأن الحبيبات الحقيقية غير قابلة للتنبؤ وتؤدي لتضخم أحجام الملفات.
ولكن بالقدر ذاته من الأهمية، تعلمنا خلال السنوات القليلة الماضية أن البث يقلل ببساطة من قيمة الفن في الوعي الجمعي لمعظم الناس. انظر فقط إلى شركة مشابهة جدًا لـ «نتفليكس»: «سبوتيفاي». تقدم «سبوتيفاي» ملايين الأغاني بسعر زهيد بشكل ملحوظ للمستهلك الذي لم يعد بحاجة إلى شراء قرص مضغوط أو أسطوانة للاستماع إلى الموسيقى. ولكن نتيجة لذلك، يجني الفنانون مجرد فتات السنتات من كل استماع لإحدى أغانيهم، بينما رُوض عشاق الموسيقى على عدم التفكير في الألبومات كأعمال فنية كاملة ومترابطة، بل كـ «مزارع أغانٍ» لقوائم التشغيل. وبدلًا من التوجه إلى رَفِك لتصفح مجموعة من أسطوانات الفينيل والأقراص المدمجة الثمينة، تُترك وحيدًا في مواجهة الخوارزمية لتوجيه ذائقتك السمعية.
اللعب في منطقة الدفاع
لنكن واضحين: النتيجة المثلى هي ألا يتم الاندماج على الإطلاق. وسواء نجحت «نتفليكس» في الاستحواذ على «وارنر براذرز» أو آلت ملكية الاستوديو في نهاية المطاف إلى منافس مثل «باراماونت سكايدانس»، فإن الآلاف سيفقدون وظائفهم، وسينتج عدد أقل من الأفلام والبرامج التلفزيونية، والأعمال التي ستمر من عنق الزجاجة ستكون أكثر تفاهة واعتمادًا على الملكية الفكرية من أي وقت مضى. وبالنظر إلى أ ن الجماهير تبدو وكأنها تلفظ أخيرًا الامتيازات الآمنة ولكن الفاترة مثل «مارفل» وإصدارات «ديزني» الجديدة للرسوم المتحركة -حتى فيلم «ويكيد: للأبد» (Wicked: For Good)، وهو تكملة لفيلم حقق نجاحًا هائلًا العام الماضي، كان أداؤه دون المستوى- فإن استحواذ «نتفليكس» على «وارنر براذرز» سيكون خطوة هائلة إلى الوراء في توقيت لا تملك فيه الصناعة ترف تحمل تبعاتها.
ولكن في حين قد لا يكون من الممكن تجنب الاندماج، فمن الحيوي -على أقل تقدير- الحد من الضرر الذي سيقع في حال إبرام مثل هذه الصفقة. ليس مستقبل السينما وحده على المحك، فسيطرة شركة مثل «نتفليكس» على كيان بحجم «وارنر براذرز» تهدد أيضًا تاريخ هذا الفن بأكمله.
في الغالب، نميل إلى التفكير في هوليوود كتكتل تجاري بحت، يديره رجال أعمال يركزون جل اهتمامهم على خلق «غثاء» يروق لأوسع شريحة ممكنة من الجمهور. وبينما هذا التصور ليس مجافيًا للصواب تمامًا، ثمة مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين يعملون لصالح استوديوهات الأفلام في أدوار تنطوي على تسليط الضوء على الأعمال المنسية، والاحتفاء بتاريخ السينما، أو نحت مساحة لفنانين مبدعين حقًا لممارسة حرفتهم. إن «تي سي إم»، وأرشيفيّي «وارنر»، وجامعي التحف والمهووسين الذين يشاهدون الأفلام القديمة، يعملون جميعًا بتناغم لحماية إرث فناني الماضي.
لا ينبغي السماح بتدمير هذه المنظومة الهشة على يد شركة تكنولوجيا لا تبتغي شيئًا أكثر من وضع يدها على ملكيات «وارنر» الفكرية مثل «هاري بوتر» و«باتمان». ولا ينبغي إخضاعها لأهواء اقتصاد يدفع الشركات نحو اندماجات درامية واستحواذات كبرى، همها الوحيد الحفاظ على ارتفاع سعر السهم. السينما تجارة قذرة وساخرة، لكنها تظل أيضًا واحدة من أكثر أشكال الفن الأمريكي حيوية في القرن الماضي. وإذا لم نؤسس نظامًا قويًا لحفظ الأفلام، متحررًا من نزوات سوق ينقلب الآن ضد الفنانين كما لم يحدث من قبل، فإننا نخاطر بفقدان تاريخ هذا الفن بأكمله.