رؤى
محمد جادرأس المال في القرن الحادي والعشرين
2020.04.01
ما الذي يعنيه الجدل الدولي حول ضرائب الثروة لمصر؟
أصبحت ضريبة الثروة على رأس الموضوعات الاقتصادية التي يدور حولها جدل محتدم هذه الأيام، ليس فقط بفضل طرح الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي لهذه الضريبة، في كتابه ذائع الصيت «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، كواحدة من الحلول الأساسية للحد من التفاوت الصارخ في توزيع الدخول والثروات في المجتمعات الغربية، بل لأنها ُطرحت أيضًا ضمن برامج السباق الانتخابي في الولايات المتحدة، على يد اثنين من المرشحين البارزين، هما إليزابيث وارن وبيرني ساندرز.
وإذا كُتب لضريبة الثروة الجديدة الميلاد في كعبة الرأسمالية على يدي أي من المرشحين ضد دونالد ترامب، فسيصل صداها في المستقبل إلى العالم النامي وإلى مصر، مثلما وصلت إلينا العديد من الأفكار البازغة لضرائب العدالة الاجتماعية في عقود ماضية، فما الذي تعنيه فكرة ضريبة الثروة بالنسبة للحالة المصرية؟ وقبل أن ندخل في قلب الجدل الدائر حول الضريبة، يجب أولًا أن نمهد سريعًا لما تعنيه؛ المقصود بضرائب الثروة الضرائب التي تفرض على الممتلكات، سواء كانت في صورة سيولة مالية أو أصول منتجة مثل المصانع أو ممتلكات خاصة مثل المجوهرات أو السيارات.. إلخ. وقد يُطلق عليها أيضًا ضريبة الأصول أو ضريبة رأس المال، وهي النقيض لضريبة الدخل التي تُفرض على الأرباح الناتجة عن تشغيل الممتلكات أو رؤوس الأموال. وهناك ضرائب ثروة تُفرض على بعض الممتلكات؛ مثل الضريبة العقارية على المساكن، أو ضريبة التركات على المواريث، أو ضريبة ثروة جامعة تفرض على ألوان متعددة من الممتلكات، والأخيرة هي الموضوع الذي يدور حوله الجدل في أمريكا، والذي نتعرض له في هذا المقال.
ما الذي يدور في الانتخابات الأمريكية ؟
يتفق المرشحان، وارن وساندرز، على أن ضريبة تستقطع من الثروات الأمريكية أصبحت ضرورة للحد من التفاوت الاجتماعي في البلاد، وإن كانا يختلفان حول معدلات تلك الضريبة. تقول السيناتور الديمقراطية بمجلس الشيوخ إليزابيث وارن «إن الطبقات الثرية في بلادها وأصحاب النفوذ جعلوا الحكومات الأمريكية لعقود تعمل لخدمة مصالحهم الضيقة، ونتج عن ذلك أن مجموعات صغيرة من الأسر استولت على كميات هائلة من الثروات التي أنتجها العمال». وتطرح تقديرات كمية عن التفاوت الاجتماعي في بلادها بإشارتها إلى أن طبقة الـ 0.1 % زادت حصتها من ثروات البلاد بنحو ثلاثة أضعاف في الفترة من السبعينيات إلى 2016، من 7 % إلى 20 %، وأصبح لدى أغنى 130 ألف أسرة تقريبًا الثروات المتاحة لـ 117 مليون أسرة. لذا تقترح وارن الضريبة على الثروة لـ «إعادة بناء الطبقة الوسطى»، على حد قولها.
وضريبة الثروة تحديدًا ستسهم في إضافة مهمة للحد من التفاوت بجانب السياسات الضريبية المفروضة على الدخل، ولكي تبرهن وارن على وجهة النظر تلك، تضرب مثالًا بشخصين، أحدهما لديه ميراث قيمته 500 مليون دولار في صورة يخوت ومجوهرات وأعمال من الفن الرفيع، والثاني يعمل مدرسًا وليس لديه مدخرات في البنك، والاثنان يجنيان دخلًا سنويًّا يقدر بـ 50 ألف دولار، تحت القوانين الحالية سيدفع الاثنان الضريبة الفيدرالية نفسها على الدخل، وذلك على الرغم من تفاوت الحظوظ في الثروة بين الاثنين. والضريبة التي تقترحها وارن ستُفرض على الأسر وستصل نسبتها إلى 2 % على كل دولار من صافي الثروة التي تتجاوز قيمتها 50 مليون دولار، وترتفع الضريبة إلى 6 % على كل دولار في الثروة التي تتجاوز المليار دولار1.
أما ساندرز، عضو مجلس الشيوخ الأطول بقاء في المجلس بصفة مستقل في تاريخ الكونجرس برمته، فيطرح ضريبة ثروة أكثر تدرجًا في شرائحها؛ إذ تبدأ من 1 % على صافي ثروة الأسرة التي تتجاوز 32 مليون دولار، و2 % على صافي الثروة التي تتراوح بين 50 إلى 250 مليون دولار، و3 % على الثروة التي تتراوح بين 250 إلى 500 مليون دولار، و4 % على تلك التي تتراوح بين 500 مليون ومليار دولار، و5 % من مليار إلى مليارين ونصف، و6 % من 2.5 مليار إلى 5 مليارات دولار.
وستتجاوز ضريبة ساندرز معدل ضريبة وارن بالنسبة للثروات التي تتراوح بين 5 إلى 10 مليارات دولار؛ إذ ستصل نسبتها إلى 7 %، وترتفع إلى 8 % على من تتجاوز ثرواتهم 10 مليار دولار.
بينما تطمح وارن لجني 3.75 تريليون دولار من ضريبتها الجديدة في عشر سنوات، ويقول ساندرز إنه يستطيع جمع 4.35 تريليونًا في خلال العقد القادم، وتخفيض ثروات الأثرياء إلى النصف في 15 عامًا. ويأتي خطاب ساندرز عن تخفيض ثروات الأثرياء على خلفية تزايد اللامساواة في توزيع الدخول والثروات بأمريكا، والذي يقول إنه الأعلى في العالم والأسوأ في تاريخ البلاد منذ العشرينيات. ويضع على موقعه الانتخابي تقديرات تذهب إلى أنه في خلال ثلاثين عامًا زادت ثروة الشريحة الأعلى 1 % بـ 21 تريليون دولار، بينما فقدت الطبقات الأدنى 900 مليار دولار «بمعنى آخر، كانت هناك عملية تحويل ضخمة للثروة ممن لديهم القليل إلى من يملكون الكثير»2. ويطرح تصورات مشابهة لتصورات وارن بشأن توجيه حصيلة الضريبة إلى مجالات من الانفاق الاجتماعي؛ مثل تمويل المساكن ملائمة التكلفة، ورعاية الأطفال المعممة، وبرنامج معمم للرعاية الصحية «ميد كير».
الرأي المعارض لضريبة الثروة
في المقابل لهذه الأصوات المتحمسة للضريبة على الثروة في أمريكا، تتصاعد الأصوات المعارضة لها؛ وتستند هذه الأصوات بالأساس إلى أن ضريبة الثروة فكرة من الماضي، ماتت منذ زمن، ومن العبث أن نبذل جهدًا في بعثها من جديد. فقد طُبقت هذه الضريبة بشكل واسع في أوروبا الغربية، وبدأت بعض البلدان في تطبيقها منذ القرن التاسع عشر، لكن معظم الدول الأوروبية ألغتها في وقت لاحق، وتراجع عدد المطبقين لها من 12 دولة حتى بداية التسعينيات إلى 4 فقط 3. وقد تخلَّت عن هذه الضريبة اقتصادات أوروبية كبيرة مثل ألمانيا وهولندا، وتعد فرنسا من أواخر الدول المتراجعة عنها، وقد حدث ذلك تحت حكم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون عام 2017 4. فلم يجرؤ أي رئيس سابق على ماكرون، الذي يلقب برئيس الأثرياء، على إعادة النظر في هذه الضريبة التي بدأ فرضها منذ عهد الرئيس فرانسوا متيران في عام 1982، وكانت تفرض على الأصول المالية والممتلكات التي كانت قيمتها تتجاوز 1.5 مليون دولار، لكن من العوامل التي دعمت موقف ماكرون كان تواضع مساهمة الضريبة في إجمالي الإيرادات الحكومية، أقل من 2 % من مجمل الإيرادات5، ويعتبر ضعف مساهمة هذه الضريبة في الإيرادات ملمحًا متكررًا في العديد من تجارب البلدان الأخرى. وضعف الإيرادات هي الحجة الثانية التي يستند إليها معارضو الضريبة، ويرجعون هذا الضعف إلى عدة عوامل؛ منها القدرة على نقل الأصول إلى بلدان ذات عبء ضريبي أقل6، بالإضافة إلى أن الحكومات تفرض هذه الضريبة على صافي الثروة، أي الثروة بعد خصم الديون، وتعفي منها بعض الأصول الاستثمارية، لذا كان بعض الأثرياء يلجؤون إلى التوسع في الاستدانة، وتوجيه جزء من ثرواتهم إلى شراء الأصول، وذلك لتقليص حجم الثروة الخاضعة للضريبة 7.
وهناك حجة ثالثة تذهب إلى عدم عدالة ضريبة الثروة، لأنها قد تُفرض على أصول لا تُدر دخلًا، على سبيل المثال المجوهرات، وربما يذكرنا ذلك بالجدل الذي دار في مصر قبل سنوات حول فرض الضريبة العقارية على المسكن الخاص، وكيف يُمثِّل ذلك عبئًا، على سبيل المثال على رجل مُسن يقضي سنوات الشيخوخة في فيلا قديمة بالزمالك ارتفعت قيمتها العقارية بسبب ارتفاع قيمة المساكن في هذا الحي.
وإلى جانب هذه الحجج هناك من يذهبون إلى أن الولايات المتحدة تفرض بالفعل ضرائب على الثروات المختلفة. فالبلاد لديها ضريبة تحت اسم federal estate tax وهي الضريبة التي تُفرض على المواريث، إلى جانب ضرائب على الممتلكات تفرضها الحكومات المحلية.
وتجني الولايات المتحدة من ضرائب الممتلكات بالفعل إيرادات مرتفعة، خصوصًا عند مقارنتها بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إذ تصل قيمة هذه الإيرادات إلى نحو 3 % من الناتج الإجمالي 8.
حجج مؤيدي الضريبة الجديدة
من الصعب التسليم بصحة الآراء المعارضة للضريبة بشكل مطلق؛ صحيح أن ضريبة الثروة تراجعت في أوروبا، لكن لدينا النموذج الإسباني الذي لجأ إلى تطبيقها منذ فترة قريبة. فقد بدأت إسبانيا في تطبيق ضريبة الثروة بعد عامين من موت ديكتاتور البلاد الشهير، فرانكو، أي في عام 1977، ولكنها ألغتها عام 2008 وقت نشوب الأزمة المالية العالمية. ثم عادت إسبانيا إلى تطبيق الضريبة بسبب حاجتها إلى الإيرادات المالية، فطبقتها بشكل مؤقت في عام 2011 9 ثم أصبحت الضريبة مفروضة بشكل دائم.
كما أن الضرائب المفروضة على الأصول في الولايات المتحدة حاليًا قُلمت أظافرها على يد الرئيسين جورج بوش الابن ودونالد ترامب. وكانت الولايات المتحدة قد بدأت في إخضاع المواريث للضرائب خلال الحرب الأهلية، وأصبحت الضريبة تشريعًا ساريًا منذ 1916، ولم تتوقف البلاد عن تحصيل الضريبة حتى عهد بوش الابن، الذي تم خلاله تمرير قانون للتوقف تدريجيًّا عن جمعها، ثم استعادها باراك أوباما من خلال اتفاق مع نواب الكونجرس الجمهوريين على تطبيقها ولكن بمعدلات إعفاء أكبر. ثم عاد الجمهوريون للانقضاض على هذه الضريبة على يد دونالد ترامب، الذي أقرَّ تعديلًا ضريبيًّا في 2017 ساهم في زيادة الإعفاء من هذه الضريبة التي تصل إلى 40 % (حتى2026). وحتى قبل هذا التعديل كان الكثيرون يدفعون فعليًّا ضريبة قيمتها نحو 17 % وفقًا لتقديرات في 2016، وذلك لأن الأثرياء لديهم العديد من الحيل لتقليص حجم المواريث الخاضعة للقانون10، ونتيجة لذلك لا تقوم الضريبة بالدور المنوط بها في الحد من اللامساواة المتفاقمة.
وبعيدًا عن التجارب السابقة في تطبيق الأشكال المختلفة من ضرائب الثروة، على مستوى النقاش النظري يقدم بيكتي في كتابه العديد من الآراء التي تدحض الحجج المهاجمة لهذه الضريبة؛ وللآراء التي تهاجم الضريبة بدعوى أنها تجني حصيلة محدودة، يقول بيكتي إنه ليس الدور الرئيسي للضريبة على رأس المال تمويل الدولة الاجتماعية بل ضبط الرأسمالية؛ فهي من ناحية تسمح بتفادي الوقوع في دوامة بلا قاع من اللامساواة وجنوح للتفاوت بين الثروات، ومن ناحية أخرى وسيلة كفؤة لضبط الأزمات المالية والبنكية. كما ستسمح تلك الضريبة بإنتاج معرفة ومعلومات عن الثروات والأصول الموروثة. وهو ما يساعد بالطبع على تعميق رؤيتنا بشأن التفاوت الطبقي وطبيعة السياسات الاجتماعية المطلوبة.
وعن ضرورة وجود ضريبة الثروة بجانب الضرائب على تدفقات الدخل يقول بيكتي، إن الضريبة على رأس المال تسمح باستكمال الضريبة على الدخل لكل الأشخاص الذين يقل دخلهم الخاضع للضريبة كثيرًا عن ثرواتهم. وفي هذا السياق يضرب مثالًا بوريثة فرنسية كانت تصنف لسنوات عديدة كصاحبة أكبر ثروة في فرنسا، وبينما لم يتجاوز دخلها السنوي قط 5 ملايين يورو، كان هذا الدخل يمثل بالكاد أكثر من واحد على عشرة آلاف من ثروتها التي تتجاوز 30 مليار يورو.
ما يريد بيكتي قوله من هذا المثال هو إننا مهما رفعنا من أسعار الضريبة على الدخل لن نصيب بيت الداء، فالثروات الكبرى كامنة في الأصول لا في الدخول، لذا لن نتمكن من القضاء على التفاوت بحق إلا إذا استطعنا تطبيق ضريبة الثروة بكفاءة.
وفي كتابه الجديد «رأس المال والأيدولوجية» يُفنِّد بيكتي أيضًا الحجج التي تقول إن الحد من وجود المليارديرات (عبر ضرائب الثروة) يساهم في تقويض النمو الاقتصادي، إذ يؤكد أن معدل نمو دخل الفرد في الولايات المتحدة خلال السنوات بين 1950 إلى 1990 كان 2.2 % سنويًّا، ولكن عندما تفاقم عدد المليارديرات في العقود التالية، ارتفع من 100 إلى 600 ملياردير في الوقت الراهن، انخفض النمو إلى 1.1 % 11.
هذا بالإضافة إلى أن الصيغ الجديدة من ضريبة الثروة تحاول تفادي الحيل الممكن اتباعها لتقليل الحصيلة؛ فكلا من وارن وساندرز يخصصان جزءًا في برنامجهما للسياسات الضامنة لتفعيل الضريبة، ويتشاركان في بعض الأفكار في هذا الصدد.
على سبيل المثال تطرح وارن ضريبة على الثروة المملوكة أيًّا كان مكانها في العالم، وكذلك زيادة التمويل الموجه إلى الجهاز التابع للحكومة الفيدرالية المسؤول عن تحصيل الضريبة (Internal Revenue Service) من أجل تعزيز عملية تفعيل الضريبة. ويطرح ساندرز تأسيس سجل وطني للثروة، وإجراءات لضمان وجود مراجع خارجي لدقة البيانات.
وقد أصدرت الولايات المتحدة في 2010 قانون تحت اسم «فاتكا» والذي يلزم البنوك خارج البلاد بتقديم معلومات إلى السلطات عن الحسابات التي يحتفظ بها العملاء في الخارج، في محاولة لتحقيق قدر أكبر من الشفافية عن بيانات الثروة ومكافحة ممارسات التهرب الضريبي، وهي تجربة مهمة قد تسهم في تيسير تطبيق ضريبة الثروة.
ماذا يعني كل هذا الجدل لمصر؟
لمصر تاريخ طويل مع ضرائب الثروة، ولكن على مدار العقود الماضية كان إسهام هذه الضرائب في إيراداتنا يتراجع، حتى أصبح حضورها هامشيًّا للغاية، وهو أمر نحتاج إلى إعادة النظر فيه في الوقت الذي نحتاج فيه بشدة إلى الموارد المالية، ويدور الجدل العالمي حول أهمية ضريبة الثروة ودورها الأساسي في المجتمعات.
خلال القرن التاسع عشر، وحتى عام 1939 وقت نشأة نظام الضرائب الحديث في مصر، كانت الإيرادات الضريبية تأتي بالأساس من الضرائب المفروضة على الأصول (أي ضرائب الثروة) وبالتحديد من الضرائب المفروضة على الأراضي الزراعية والعقارات. كانت مصر في تلك الحقبة على خطى ما يجري في العالم، فقد بدأت النظام الضريبي بضرائب الأصول لأن تتبع الدخول وفرض الضرائب عليها ظل أمرًا غير هين لفترة طويلة. ومع دخول مصر في عالم الضرائب الحديثة، ضرائب الدخل، بدأ إسهام ضرائب الأراضي الزراعية (الأطيان) في التراجع في مجمل الحصيلة.
لكن في المقابل أدخلت مصر مجالًا جديدًا للضرائب على الثروات، وهي ضرائب المواريث، التي بدأت في الأربعينيات بضريبة «رسم الأيلولة» 12، وهو رسم يفرض على عملية نقل التركة من جيل إلى جيل، ثم أضافت إليها الدولة بعد ثورة يوليو ضريبة أخرى على التركات نفسها 13. لكن ضريبة الأراضي الزراعية أخذت في الذبول حتى أصبحت تمثل هامشًا ضئيلًا في إيراداتنا الضريبية، بسبب تجميد الدولة لقيمة الأصول التي يتم على أساسها حساب الضريبة. كما ظلت ضريبة العقارات محكومة بقانون قديم لا يُخضع العقارات مرتفعة القيمة للضريبة، مثل العقارات الساحلية وتجمعات المجتمعات الجديدة خارج القاهرة 14، واستمر هذا الوضع حتى شُرِّع قانون جديد للضرائب العقارية في 2008، ولم تطبق الفلسفة الضريبية الجديدة تلك فعليًّا إلا منذ 2013 15، ولحق بها العديد من العوامل التي حدَّت من قدرتها على تقديم حصيلة ضريبية كبيرة، منها على سبيل المثال أن الحد الأقصى المسموح به لزيادة تقدير قيمة العقار محل الضريبة (30 %) لا يتماشى مع طفرات أسعار العقارات في مصر16. ويصل إجمالي الضريبة المتوقعة من الثروة العقارية في العام المالي الجاري، 2019-2020، إلى 668 مليون جنيه، من 396.3 مليار جنيه إجمالي الضرائب العامة، أي بنسبة تقل عن 1 % من الحصيلة الإجمالية للضرائب العامة. أما ضرائب المواريث فقد ألغيت في 1996 17، وقالت الدولة إنها عجزت عن مكافحة التهرب منها لدرجة جعلت تكلفة جمعها أكبر من الحصيلة التي تدرها.
إلى جانب هذه القوانين ظلت ودائع البنوك معفاة من الضريبة، ولا توجد ضرائب على ملكية الأسهم، هذا بجانب أن الممتلكات الشخصية لا تخضع للضرائب، مثل السيارات والمجوهرات وغيرها.
وظلت البنوك تتجنب لفترة طويلة سداد جزء من الضرائب المستحقة عليها، إذ كانت الدولة تخصم قيمة الضرائب التي تسددها على عوائد السندات وأذون الخزانة التي تشتريها البنوك من قيمة ضرائب الدخل المستحقة عليها، ولم تنته هذه الظاهرة سوى بتعديل تشريعي في 2019.
هذه الأوضاع أسهمت، بطبيعة الحال، في إنتاج معدلات مرتفعة من اللامساواة في مصر، ففي الوقت الذي تزايدت فيه أعداد الفقراء كنسبة من مجمل السكان لتصل إلى 32.5 % (تقرير جهاز الإحصاء عن عام 2017-2018)، يوجد في مصر 11 ثريًّا تتجاوز صافي ثرواتهم 500 مليون دولار، و86 آخرين تتراوح ثرواتهم بين 100 - 500 مليون دولار. ( وفقًا لتقدير بنك كريدي سويس عام 2019).18
تدعونا هذه البيانات إلى إعادة النظر في مسألة ضريبة الثروة، بجانب إعادة نظر ضرورية أيضًا في ضرائب الدخل، فالتفاوت في توزيع الدخول لا يقل سوءًا، ولكن مجال المقال هنا لا يتسع للنقاش بشأنه.
وربما من أفضل الطروحات تماسكًا عن إصلاح ضرائب الثروة ما قدَّمه مركز حلول للسياسات البديلة، بالجامعة الأمريكية، في دراسة نشرت قبل عامين (إعداد الباحث نادر أسامة). وكان من أبرز توصياتها، إصلاح هيكل الضريبة العقارية من خلال وضع معايير أكثر شفافية وعملية لتقييم العقارات، وإلغاء إعفاء الأرض الفضاء واستعادة ضرائب الأيلولة والهبات. وقدَّرت الورقة أن الإصلاحات الموصى بها قد تسهم في جني إيرادات تصل قيمتها إلى 28 مليار جنيه سنويًّا في المتوسط.
ولنجاح مثل هذه المشروعات نحتاج إلى حوار مجتمعي موسع، لكي تطرح الدولة على المواطنين مسألة ضريبة الثروة، وتسمع أسباب تهرب البعض منها، فهذا النوع من الضرائب على وجه الخصوص بالغ الحساسية ويحمل رمزية كبيرة؛ إذ يُعبِّر عن منتهى العدالة للطبقات الأدنى، ويمثل أيضًا أشد ألوان التعدي على الملكية الشخصية في نظر الطبقات الأعلى، وللوصول إلى توافق وطني حول هذا النهج لا بد من حوار منفتح يشعر الجميع بأن إيرادات هذه الضريبة ستذهب فعلًا للصالح العام.
1- الموقع الرسمي لإليزابيث وارن
https://elizabethwarren.com/plans/ultra-millionaire-tax
2- الموقع الرسمي لبيرني ساندرز
https://bit.ly/2uPR9u1
3- Joseph Zeballos-Roig - 4 European countries still have a wealth tax. Here’s how much success they’ve each had.- Business insider - Nov 2019. https://www.businessinsider.com/4-european-countries-wealth-tax-spain-norway-switzerland-belgium-2019-11
4- Chris Edwards - Taxing Wealth and Capital Income -Cato institute- August 2019 - https://www.cato.org/publications/tax-budget-bulletin/taxing-wealth-capital-income
5- Adam Nossiter - Emmanuel Macron’s Unwanted New Title: ‘President of the Rich - NYtimes - Nov 2017 - https://www.nytimes.com/2017/11/01/world/europe/france-emmanuel-macron.html
6- Joseph Zeballos-Roig
7- Chris Edwards
8- OECS stat - taxes on property % GDP -https://stats.oecd.org/index.aspx?DataSetCode=REV&fbclid=IwAR3nKYDtUmPcAmAlFzqW9Xh8_2XE7ddawlMP9h_7Xr07g5F61omCfczLdhA
9- Spain to reinstate wealth tax on Friday - Reuters - September 2011-
https://www.reuters.com/article/spain-tax/update-1-spain-to-reinstate-wealth-tax-on-friday-idUSLDE78E07S20110915
10- Ben Steverman - The Estate Tax - Bloomberg - Jan 2020 - WP link https://www.washingtonpost.com/business/the-estate-tax/2020/01/28/d1c1111c-41f8-11ea-99c7-1dfd4241a2fe_story.html
11- Robert Frank - Billionaires hurt economic growth and should be taxed out of existence, says bestselling French economist - CNBC - sep 2109 - https://cnb.cx/3b4mCsR
12- قانون 142 لسنة 1944 بشأن فرض رسم أيلولة على التركات.
13- قانون 159 لسنة 1952 بفرض ضريبة على التركات وبتعديل بعض أحكام القانون رقم 142 لسنة 1944 بفرض رسم أيلولة على التركات.
14- قانون 56 لسنة 1954.
15- بعد عدد من التعديلات بدأ سريان الضريبة العقارية بحكم قانون رقم 117 لسنة 2014 بتعديلات قانون الضرائب. ووفقًا للقانون يتم سداد الضريبة اعتبارًا من أول يوليو 2013، على أن تستحق بعد ذلك في مطلع يناير من كل عام.
16- بيسان كساب - الضرائب مصلحة من؟ - دار المرايا - 2019.
17- قانون 227 لسنة 1996 بإلغاء ضريبة الأيلولة.
18- Egyptian adults account for 0.2% of global wealth- Enterprise- October 2019- https://enterprise.press/stories/2019/10/29/egyptian-adults-account-for-0-2-of-global-wealth/
ترشيحاتنا
