عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

نجلاء عبد الجواد

العلاقات الصينية الإسرائيلية

2025.04.26

مصدر الصورة : AFP

العلاقات الصينية الإسرائيلية: من عداوة الأيديولوجيا إلى تحالف المصالح

 

في عالم تتشابك فيه المصالح الاقتصادية مع الخلافات الجيوسياسية، تبرز العلاقات الصينية الإسرائيلية كدراسة حالة معقدة تجمع بين التعاون الوثيق في مجالات التكنولوجيا والتجارة، وإشكالية تتعلق بالسياسات المثيرة للجدل، مثل بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. خلال ثلاثة عقود، تحولت إسرائيل من دولة محظورة في الخطاب الصيني إلى شريك إستراتيجي في الابتكار، بينما تحافظ الصين على موقف دبلوماسي "متوازن" تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. هذه المقالة تستعرض تطور هذه العلاقة، مع التركيز في حجم التعاون الاقتصادي والتقني، والتداعيات الأخلاقية والسياسية المرتبطة بدور الشركات الصينية في بناء المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لقد شهدت العلاقات الصينية الإسرائيلية تحولات جذرية على مدار القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، من عداءٍ قائم على الخلفية الأيديولوجية إلى شراكةٍ إستراتيجية تجمع بين التكنولوجيا والاقتصاد. بدأت القصة بموقف صيني مناهض لإسرائيل في ظل الحرب الباردة، ثم تحولت تدريجيًّا إلى تعاونٍ وثيق بعد انفتاح الصين على العالم. هذه المقالة تستعرض المسار التاريخي لهذه العلاقة، وتحلل العوامل التي شكلت تحولاتها، من دعم الصين للقضية الفلسطينية إلى شراكتها مع إسرائيل.

السياق التاريخي: من العداء إلى الشراكة

اعترفت الصين في وقت مبكر 1950، بإسرائيل إلا أنه كان اعترافًا اعترفت به مؤقتًا، لكنها سرعان ما تراجعت عنه تحت ضغط الدول العربية التي كانت تسعى إلى عزل إسرائيل دبلوماسيًّا. وخلال حرب 1967 دعمت الصين مصر وسوريا عسكريًّا وسياسيًّا، ووصفت إسرائيل بـ"العدو للشعوب"، لم تقُم أي علاقات رسمية بين البلدين، ورفضت الصين حتى إصدار تأشيرات لليهود الصينيين بالهجرة إلى إسرائيل.

لكن مع بدء سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية تحت قيادة دينغ شياو بينج، بدأت بكين في إعادة تقييم تحالفاتها، سعيًا إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية. في ثمانينيات القرن العشرين، سمحت الصين بتعاون سري بين الشركات الصينية والإسرائيلية في مجالات الزراعة والري، رغم عدم الاعتراف الرسمي. كما بدأ باحثون إسرائيليون بالمشاركة في مؤتمرات علمية في الصين، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطب. وشجعت الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل، على تقارب صيني-إسرائيلي لمواجهة النفوذ السوڨييتي في الشرق الأوسط.

ونتيجة لتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، التي شجعت بكين على تطوير علاقاتها بتل أبيب، في 24 يناير 1992، أعلنت الصين وإسرائيل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، كجزء من تحول الصين إلى قوة عالمية تسعى إلى شراكات متنوعة، خصوصًا أن إسرائيل زودت الصين بتكنولوجيا عسكرية حساسة، مثل أنظمة الطائرات دون طيار، في تسعينيات القرن الماضي، رغم معارضة الولايات المتحدة. وهذا ما كشفته وثائق سرية لاحقًا، ما جعل إسرائيل الآن شريكًا رئيسيًّا للصين في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في مجالات التكنولوجيا الفائقة والاستثمارات الإستراتيجية.

التعاون الاقتصادي: أرقام ومشاريع محورية

بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 24.5 مليار دولار عام 2023، مقارنة بـ50 مليون دولار فقط عام 1992. فالصادرات الإسرائيلية إلى الصين تهيمن عليها التكنولوجيا الطبية (معدات الأشعة والروبوتات الجراحية)، والرقائق الإلكترونية، التي تصنعها شركة إنتل إسرائيل، والمواد الكيميائية المتخصصة.

أما الصادرات الصينية إلى إسرائيل، فتشمل الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، والآلات الصناعية، ومكونات البنية التحتية.

وبلغت الاستثمارات الصينية في إسرائيل أكثر من 20 مليار دولار في الفترة ما بين 2010 و2023، وفقًا لتقارير وزارة الاقتصاد الإسرائيلية. فقد استحوذت شركة تكنولوجيك الصينية عام 2021 على شركة بلينتوبت الإسرائيلية المتخصصة في كاميرات المراقبة الذكية بقيمة 1.6 مليار دولار. وتم اتفاق شراكة بين شركة تشاينا هاربن للصناعات الثقيلة وشركة إسرائيلية لبناء محطات تحلية المياه.

أما في مجال البنية التحتية، فقد شاركت شركات صينية في مشاريع كبرى، مثل: خط سكك حديد تل أبيب-أورشليم القدس الذي تم الانتهاء منه عام 2018 بتكلفة 2 مليار دولار. وميناء حيفا التجاري، الذي تديره شركة شنجهاي الدولية للموانئ منذ 2021 وحتى الآن، ما أثار كثيرًا من المخاوف الأمنية لدى أمريكا، التي ترى في هذا قوة تجارية للصين تهدد مصالحها ونفوذها في الشرق الأوسط. ما جعلها تعرقل الصفقات الصينية-الإسرائيلية في مجالات حساسة مثل تكنولوجيا الاتصال 5G، حيث منعت إسرائيل في 2021 شركة "هواوي" من المشاركة في تطوير شبكات اتصالاتها.

ويحتل التعاون التقني بين الصين وإسرائيل أقوى أنواع التعاون حيث تعتبر إسرائيل وادي السليكون الصيني على غرار وادي السليكون الأمريكي، وتُلقب إسرائيل في الأوساط الصينية بـ"منصة الابتكار"، وتستثمر الشركات الصينية في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني: حيث تتعاون شركة بايدو الصينية وشركة أسايبرارك الإسرائيلية معًا لتطوير أنظمة حماية البيانات.

وللتكنولوجيا الزراعية بين الصين وإسرائيل دور اقتصادي مهم، فهناك مشاريع مشتركة لتحلية المياه والري الذكي في مقاطعات صينية تعاني من الجفاف. بالإضافة إلى مجالات الطاقة المتجددة من خلال استثمارات صينية في شركات إسرائيلية ناشئة مثل شركة "سولار إيدج" لتطوير الألواح الشمسية عالية الكفاءة. 

وتحتل إسرائيل المرتبة الثانية عالميًّا (بعد الولايات المتحدة) في جذب الاستثمارات الصينية في الشركات الناشئة (Startups)، حيث ضخت الصين عام 2022، 7 مليارات دولار في هذا المجال، وفقًا لموقع (ستارت أب ناشون سنترال). كما أن إسرائيل استطاعت أن تحتل مكانة في إستراتيجية "الحزام والطريق الصينية" وهي إستراتيجية تنموية عالمية أطلقتها الصين عام 2013 تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ، بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي والتبادل الثقافي بين الدول عبر تطوير البنية التحتية وخلق شبكات تجارية ومالية متصلة. تستلهم المبادرة روح طريق الحرير التاريخي الذي ربط الصين بآسيا الوسطى وأوروبا وإفريقيا منذ القرن الثاني قبل الميلاد. ورغم عدم وجود إشارة رسمية لإسرائيل في خريطة المبادرة، فإن التعاون الثنائي يتقاطع مع أهدافها عبر الممرات اللوجستية، فقد استخدم ميناء حيفا كبوابة صينية إلى أوروبا، وتسهيل نقل البضائع من شنغهاي إلى البحر المتوسط. والاستثمار في التكنولوجيا، حيث تعتزم الصين دمج الابتكارات الإسرائيلية في مشاريع البنية التحتية الذكية وجعلها "محور تكنولوجي" ضمن مبادرة الحزام والطريق، عبر ربط الشبكات اللوجستية بين موانئها في البحر الأحمر، ميناء إيلات والمتوسط ميناء حيفا.

الدور الصيني في المستوطنات الإسرائيلية: بين الإنكار والواقع

رغم إدانة الصين الرسمية للمستوطنات واعتبارها غير شرعية وفق القانون الدولي، تشير تقارير منظمات حقوقية إلى وجود شركات صينية متورطة بشكل غير مباشر في بناء البنية التحتية بالضفة الغربية. ففي 2020، كشفت منظمة "Who Profits" الإسرائيلية أن شركة "تشاينا إنرجي" شاركت في بناء شبكة طرق تربط المستوطنات، عبر توريد معدات بناء. وأن شركة "ZTE" الصينية زودت أنظمة اتصالات لشركة "بيزك" الإسرائيلية، التي تخدم المستوطنات، في شكل استثمارات غير مباشرة من خلال استثمار صناديق صينية في صندوق "ألون" الإسرائيلي، الذي يمول مشاريع عقارية في الضفة الغربية، وفقًا لتقرير "غلوبال تايمز" نشر عام 2022.

ومع ذلك ترفض الصين الاعتراف بشرعية المستوطنات، لكنها لا تفرض قيودًا على شركاتها العاملة مع إسرائيل، ما يسمح بـ"الالتفاف" عبر تعاقدات مع جهات إسرائيلية خاصة دون تمييز بين حدود 1967.

وتسعى الصين إلى عمل توازن في سياستها بين فلسطين خاصة والدول العربية عامة، فبعد اتفاقيات إبراهيم 2020، أدى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية إلى فتح آفاق جديدة للتعاون الصيني في المنطقة، حيث تسعى بكين إلى تقديم نفسها كشريك محايد لجميع الأطراف، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 والحرب الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية، وقد دعت الصين إلى "تهدئة الأوضاع"، لكنها تجنبت انتقاد إسرائيل مباشرةً، حفاظًا على مصالحها الاقتصادية.

 ولكن هذا التوازن هش يتأرجح بين دعم سياسي تاريخي ممتد وبين شراكة اقتصادية محدودة، فرضها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، وقفت الصين إلى جانب القضية الفلسطينية كجزء من خطابها المناهض للاستعمار، لكن التعاون الاقتصادي والتقني بين الطرفين ظل محكومًا بالواقع الجيوسياسي الفلسطيني، الذي فرض على فلسطين أن تتخلف عن النمو الاقتصادي وأن تكون أمة تعيش على المساعدات والمنح، وتعد الصين من أكبر المانحين للسلطة الفلسطينية حيث قدمت حوالي 150 مليون دولار كمساعدات بين عامي 2010 و2023 وفقًا لتقارير وزارة الخارجية الصينية. وأنشأت عام 2019 مستشفى الصداقة الصيني الفلسطيني في رام الله بتكلفة 25 مليون دولار. وفي عام 2021 أنشأت مدرسة تدريب مهني في غزة ضمن مشاريع المساعدات الإنسانية الصينية. لكن يظل حجم التبادل التجاري محدودًا بين البلدين حيث بلغ 65 مليون دولار عام 2022، وفقًا لبيانات منظمة التجارة العالمية. والسبب في ذلك القيود الإسرائيلية، حيث تسيطر إسرائيل على المعابر التجارية الفلسطينية ما يعيق التصدير المباشر بين البلدين. كما أن تسويق معظم المنتجات الصينية يتم عبر شركات إسرائيلية أو أردنية.

وتصدر فلسطين إلى الصين منتجات زراعية مثل التمور وزيت الزيتون بالإضافة إلى الحرف اليدوية، وتصدر الصين إلى فلسطين مواد البناء، والأجهزة الإلكترونية والحواسيب والموبايلات، وفي عام 2020 حدثت شراكة بين شركة "هواوي" الصينية وشركة اتصالات فلسطينية لتطوير شبكات اتصالات الضفة الغربية. كما تقدم الصين 500 منحة إلى الطلاب الفلسطينيين في مجالات الهندسة والطب، وفي عام 2022 أطلقت بكين برنامجًا لتدريب الكوادر الفلسطينية على تكنولوجيا الطاقة الشمسية.

العلاقات الصينية الإسرائيلية بين تحديات السياسة والاقتصاد

توازن الصين بين استثماراتها في الدول العربية، خاصة في مجال الطاقة عبر إستراتيجية الحزام والطريق وشراكتها التكنولوجية مع إسرائيل، وهذا يجعل الصين تخشى من تأثير التصعيد في استقرار المنطقة، الذي قد يعطل مشاريعها. ويجعل البعض يرى ازدواجية في مواقفها، فهناك من يتهم الصين بالانتهازية، لدعمها الحقوق الفلسطينية، بينما تستفيد اقتصاديًّا من التعاون مع إسرائيل، بما في ذلك في المناطق المحتلة، بما يعد انتهاكًا لحقوق الإنسان الفلسطيني، فوفقًا لتقرير "هيومن رايتس ووتش" عام 2023، تُساهم البنية التحتية التي تبنيها الشركات الصينية في تعزيز التوسع الاستيطاني، الذي يقوض إمكانية حل الدولتين.

مما سبق نستخلص أن الشراكة الصينية تحكمها المصالح وتُحِدُّها الأخلاقيات، فلا تزال العلاقات الصينية الإسرائيلية قائمة على مبدأ "الفصل بين السياسة والاقتصاد"، حيث تتفادى بكين الاصطدام بمصالحها مع أي من الأطراف. ومع تصاعد التعاون التقني، تتعمق التناقضات بين الدور الصيني كحامٍ للدول النامية وشراكاتها مع دولة محتلة. مستقبلًا، قد تضطر الصين إلى مواجهة ضغوط دولية لإعادة تقييم تعاونها مع الشركات الناشطة في المستوطنات، خاصة مع تصاعد الوعي العالمي بقضية فلسطين. ما قد يضطرها إلى أن تتبع مبدأ الشفافية وأن تنشر تفاصيل مشاريع شركاتها في إسرائيل، لتجنب الاتهامات بالتواطؤ في انتهاكات القانون الدولي. أيضًا ينبغي وضع معايير تُلزم الشركات الصينية بعدم العمل في المناطق المحتلة.

إن العلاقات الصينية-الإسرائيلية هي نتاج تحول جيوسياسي عميق، حيث لم تعد الأيديولوجيا محركًا رئيسيًّا للدبلوماسية، بل المصالح الاقتصادية والتكنولوجية. في عالم تتشكل فيه تحالفات جديدة يوميًّا، تبرز هذه الشراكة كدليل على قدرة الدول على تجاوز تاريخ من العداء لبناء تعاون مربح للطرفين.

لكن هذا النجاح لا يخفي التحديات: فبينما تستفيد الصين من التكنولوجيا الإسرائيلية، وإسرائيل من السوق الصينية، تظل القضية الفلسطينية بمثابة "الغرفة المظلمة" في هذه العلاقة، حيث تختبر أخلاقيات السياسة الدولية في ظل هيمنة البراجماتية. إن العلاقة بين الصين وإسرائيل نموذج لتعقيدات العولمة، حيث تصبح التكنولوجيا جسرًا فوق هوة الخلافات السياسية، لكنها تطرح تساؤلات عن ثمن التقدم الاقتصادي عندما يُبنى على أرض مغتصبة محتلة، يُقتَل شعبها ويباد يوميًّا بفعل التكنولوجيا.