رؤى
شريف إمامهوية ملتبسة.. قراءة في ظاهرة المسلم الصهيوني
2025.09.14
مصدر الصورة : آخرون
هوية ملتبسة.. قراءة في ظاهرة المسلم الصهيوني
قد يداهم السامع بمصطلح «المسلم الصهيوني» شعور بالدهشة أقرب إلى الصفعة الفكرية: كيف يمكن أن يتبنى مسلمٌ خطاب الصهيونية؟ وأي انسجام يمكن أن يُتصوَّر بين الإسلام، الذي ارتبط وجدانيًّا بقضية فلسطين والدفاع عن القدس، وبين صهيونية وُلدت في رحم الاستعمار وترسخت على أرض مغتصبة تحت راية الاحتلال؟ إن المفارقة هنا ليست مجرد تركيب لغوي متناقض، بل حقيقة ماثلة في تجارب معاصرة، برزت مع تسارع موجات التطبيع العربي، حين أعلن بعض الأفراد والمنظمات مواقف مؤيدة لإسرائيل، بل لم يتردد بعضهم في وصف نفسه صراحة بأنه «مسلم صهيوني».
هذا التناقض الصارخ، الذي يجمع بين عقيدة دينية مؤسسة على التوحيد وقيم العدالة والكرامة، وبين حركة قومية استعمارية ارتبطت بالتهجير والقهر، جعل من المصطلح أداة اتهام شائعة في الخطاب السياسي، يُوجَّه خصوصًا إلى دعاة التطبيع أو المبررين للسياسات الإسرائيلية. غير أن المفارقة أن المصطلح لم يبقَ مجرد سلاح دعائي، بل صار، مع مرور الوقت، هوية يرفعها بعض الأفراد عن وعي، متحدّين بها الوعي الجمعي السائد.
جذور «العمامة» الصهيونية
في حين اشتد حضور التعبير في العقدين الأخيرين، حين وُصفت بعض الشخصيات العربية بأنها «صهيونية بعمامة إسلامية»، فإن ظاهرة «المسلم الصهيوني» ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين في عشرينيات القرن الماضي. ففي تلك الفترة برزت منظمة عُرفت باسم الجمعيات الوطنية الإسلامية، وهي كيان استُوحي في بنيته وأهدافه من المشروع الصهيوني، بل وموِّل مباشرة من قِبله. كان لهذه الجمعية فروع في عدد من البلدات الفلسطينية، وقادها حسن بك شكري، رئيس بلدية حيفا، إلى جانب الشيخ موسى هديب، زعيم حزب الفلاحين في جبل الخليل.
وبحسب المؤرخ الإسرائيلي بني موريس، كانت هذه المنظمة صنيعةً صهيونية مباشرة، إذ أنشئت لتكون ثِقلًا موازنًا للجمعيات الإسلامية ذات النزعة القومية والمعادية للصهيونية، التي ظهرت رفضًا لوعد بلفور ولمشروع إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.
ومنذ ذلك الحين، كلما ضاقت دوائر المقاومة وتزايدت الضغوط الدولية، عادت هذه الأصوات الهامشية لتعلن «إمكانية التعايش» بين الإسلام والصهيونية، وكأنها تسعى إلى تحويل المفارقة إلى واقع.
إمام اليهود
في الوقت ذاته تضم قائمة ما يُسمّى بـ«المسلمين الصهاينة» شخصيات متفرقة في العالم الإسلامي والغربي، ممن اتخذوا مواقف صريحة في دعمهم لإسرائيل، بل إن بعضهم لم يتردد في وصف نفسه علنًا بهذا اللقب المثير للجدل.
من أبرز هؤلاء حسن الشلغومي، إمام مسجد درانسي في باريس، ورئيس منتدى أئمة مسلمي فرنسا، الذي يرى أن رسالته تقوم على التعايش مع اليهود، وأن دعم إسرائيل سبيل لمكافحة معاداة السامية وصناعة سلام مستدام.
اشتهر الشلغومي بمواقفه المؤيدة لإسرائيل ومعارضته لحركات المقاومة الفلسطينية، حتى لقبه الإعلام الفرنسي والإسرائيلي بـ«إمام اليهود» حيث لم يتورع عن وصف حماس بالإرهاب، وذهب إلى حد تقبيل يد وزير إسرائيلي، ما أثار موجة غضب دفعت ناشطين تونسيين إلى المطالبة بمحاكمته وسحب جنسيته بتهمة الخيانة.
ومن بنغلاديش برز اسم الصحفي صلاح الدين شودري، رئيس تحرير صحيفة ويكلي بليتز، الذي اعتقل عام 2003 قبل سفره إلى إسرائيل للمشاركة في مؤتمر حوار أديان، وقضى سبعة عشر شهرًا في السجن بتهمة الخيانة. لكن خروجه من السجن لم يبدّل قناعاته، بل واصل دعمه الصريح لإسرائيل، حتى وصف نفسه بأنه «مسلم صهيوني يعيش في بلد مسلم معادٍ لإسرائيل».
كان شودري يجادل في مقالاته بأن كراهية إسرائيل غرس سياسي لا أصل له في الإسلام، داعيًا المسلمين إلى الاعتراف بها شريكًا شرعيًّا في المنطقة.
وفي أوروبا يبرز عبد الهادي بلازي، رئيس المعهد الثقافي للمجتمع الإسلامي الإيطالي، الذي يستند في دعمه للصهيونية إلى قراءة لاهوتية للنصوص الدينية، إذ يرى أن الله منح اليهود أرض الميعاد، وأن هذا الوعد مؤكد في كل من التوراة والقرآن.
يرى بلازي أن أرض إسرائيل وطن شرعي للشعب اليهودي، وأن العداء العربي والإسلامي لها ليس دينيًّا في جوهره بل وليد صراعات سياسية في القرن العشرين، وهو من أبرز الوجوه التي منحت الصهيونية "شرعية دينية" من داخل الفضاء الإسلامي الأوروبي.
أما في بريطانيا، فلمع اسم قاسم حفيظ، الشاب من أصول باكستانية الذي نشأ على ثقافة الكراهية لإسرائيل حتى كاد ينزلق نحو التطرف، غير أن قراءته لكتاب «قضية إسرائيل» لـ«ألان ديرشوفيتز» وزيارته لإسرائيل عام 2007، غيرت مسار حياته، حيث تحول بعدها إلى ناشط مدافع عن إسرائيل، يصفها بأنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، ويعلن بلا تردد: «أنا مسلم وصهيوني في الوقت نفسه».
وتتقاطع قصته مع قصة حسين أبو بكر، المصري الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، حيث تبدلت نظرته المعادية لإسرائيل عبر احتكاكه بالمجتمع اليهودي هناك.
أعلن أبو بكر نفسه «مسلمًا صهيونيًّا»، معتبرًا أن عداء المسلمين لإسرائيل ليس قدرًا دينيًّا محتومًا، بل موقفًا سياسيًّا قابلًا للمراجعة.
ويضاف إلى هذه القائمة نور داهري، الباحث البريطاني المسلم، الذي أعلن عام 2017 اعتناقه للفكر الصهيوني، داعيًا المسلمين إلى النظر إلى إسرائيل بواقعية، والتخلي عن عداء يصفه بالعبثي الذي لا يخدم إلا المتطرفين.
وداهري ناشط معروف في المنابر الإعلامية الغربية المؤيدة للتطبيع، حيث يقدم خطابًا يسعى إلى إقناع المسلمين بجدوى القبول بإسرائيل كحقيقة سياسية لا يمكن إنكارها.
وعلى الضفة الأخرى من المشهد، تبرز منظمات ومؤسسات تحاول أن تمنح لهذه الظاهرة سندًا فكريًّا أو غطاءً مؤسسيًّا. فالتاريخ يسجل أن بعض الجمعيات الإسلامية الوطنية التي نشأت في فلسطين خلال عشرينيات القرن الماضي تأسست بدعم وتمويل صهيوني، في إطار السعي إلى مواجهة القوى الوطنية الفلسطينية آنذاك، وتفكيك لحمتها الداخلية لصالح المشروع الاستيطاني.
وفي العصر الحديث، يظهر المنتدى الإسلامي الأمريكي من أجل الديمقراطية الذي أسسه الطبيب السوري الأمريكي زاهد جيسر عام 2003، داعيًا إلى ما يسميه «إسلامًا ليبراليًّا ديمقراطيًّا»، ومن أبرز مواقفه تبنيه العلني لحق إسرائيل في الوجود والدفاع عن شرعيتها أمام الرأي العام الغربي.
وإلى جانب ذلك، تتداول التقارير أن إسرائيل، خصوصًا بعد اتفاقيات أبراهام، باتت ترعى مبادرات أكاديمية وإعلامية تهدف إلى تأهيل دعاة مسلمين «معتدلين» يروجون لفكرة التعايش مع إسرائيل، عبر ما يشبه معاهد لإعداد الدعاة، في محاولة لخلق نخب دينية صديقة تستطيع أن تبرر هذا التحول سياسيًّا ودينيًّا.
وهكذا، تبدو هذه المؤسسات كأنها الذراع الفكرية والتنظيمية التي تحاول أن تشرعن وجود «المسلمين الصهاينة»، وإن بقي تأثيرها في المحصلة محدودًا ومحاصرًا، لكنه مع ذلك يعكس سعيًا حثيثًا لبناء جبهة ناعمة تخدم مشروعًا أشد صلابة.
الخطاب «الإسلاصهيوني»
يرتكز خطاب ما يُسمّى بـ«المسلمين الصهاينة» على جملة من الأسس التي تمنحه شرعية في نظر أصحابه. فمنهم من يستند إلى النصوص الدينية كما يفعل عبد الهادي بلازي، في تأويله لبعض الآيات القرآنية التي يرى فيها وعدًا إلهيًّا لبني إسرائيل بأرض الميعاد، ليبني على ذلك مشروعية وجود الدولة العبرية.
ومنهم من انطلقت مواقفه من تجارب شخصية عاشها في الغرب، كما في قصة قاسم حفيظ وحسين أبو بكر، حيث شكل الاحتكاك بالديمقراطية والحريات بيئة أعادت صياغة نظرتهما لإسرائيل بعيدًا عن الكراهية التي شبّا عليها في مجتمعاتهما الأصلية.
وهناك من جعل محاربة الإسلام السياسي والتطرف نقطة انطلاق، فصوّر إسرائيل كحليف موضوعي ضد الجماعات الجهادية التي تهدد استقرار العالم.
وإلى جانب ذلك، يعلو خطاب يدعو إلى الحوار بين الأديان، يمثله بوضوح حسن الشلغومي، الذي يرى في نفسه جسرًا يربط بين المسلمين واليهود، ويعتبر أن دوره يكمن في فتح مساحات للتلاقي بدلًا من البقاء في أسر الصراع والعداء.
وقد كان لصوت «المسلمين الصهاينة» وقع الصدمة في المجتمعات الإسلامية، إذ لم يُنظر إليهم إلا باعتبارهم خونة أو عملاء يتنكرون لجوهر العدالة التي يمثلها الإسلام في الوعي الجمعي، بينما تظل الصهيونية في المخيال الشعبي نقيضًا لهذه العدالة.
غير أنّ ثمة دوائر ضيقة في الغرب، وفي بعض الدول التي انخرطت في مسار التطبيع، تتعامل مع هذه الشخصيات بوصفها أصواتًا شجاعة كسرت المحرمات السياسية والدينية.
وفي حين يتشكل المشهد بين رفض شعبي واسع وقبول رسمي غربي يمنح هذه الظاهرة مساحة محدودة لكنها متنامية في الفضاء الإعلامي، يبقى السؤال مفتوحًا حول المستقبل: هل سيظل هؤلاء مجرد حالات فردية تُذكر على هوامش التاريخ، أم أننا أمام نواة تيار منظم تسنده مراكز بحث ومعاهد إسرائيلية؟
الأرجح أن يظل الحضور في قلب العالم الإسلامي ضعيفًا ومحاصرًا، لكنه قد يتسع في أوساط الجاليات المسلمة في الغرب، حيث يخفّ وهج الرواية التاريخية للصراع، ويعلو منطق الاندماج في المجتمعات الليبرالية.
أما في المنطقة العربية، فإن استمرار مسار التطبيع قد يفتح الباب لظهور مزيد من هذه الأصوات، حتى وإن ظلّت مرفوضة في وجدان الشعوب، بينما يبقى السؤال الأول معلقًا كما بدأنا: هل المسلم الصهيوني مجرد تناقض لغوي يستحيل تصوره، أم أنه حقيقة سياسية تفرض حضورها ولو على استحياء؟
الواقع أن الظاهرة، مهما بدت محدودة، قائمة بالفعل، تكشف عن قدرة الصراع العربي الإسرائيلي على إنجاب مفارقات مدهشة في الهويات والخطابات. قد يظل هؤلاء مجرد أقلية صاخبة لا تغيّر في الموازين الكبرى، لكنهم مع ذلك يشكلون حجرًا يُلقى في مياه الخطاب الإسلامي، فتتسع من حوله دوائر الجدل والأسئلة، ويظل أثره حاضرًا في النقاش حول مستقبل العلاقة بين الإسلام والصهيونية، بين النصوص والواقع، بين الذاكرة والتحولات السياسية.