عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

أشرف إبراهيم

من غزة إلى السودان وأوكرانيا.. لماذا تتحول الحروب الإقليمية إلى تعبير عن أزمة الإمبريالية العالمية؟

2025.12.28

من غزة إلى السودان وأوكرانيا.. لماذا تتحول الحروب الإقليمية إلى تعبير عن أزمة الإمبريالية العالمية؟

 

 

تبدو حرب الإبادة في غزة، والحرب المدمرة في السودان، والحرب الروسية الغربية على أرض أوكرانيا كأنها نزاعات متفرقة في خرائط متباعدة، لكنها في الجوهر حلقات في سلسلة واحدة. فهذه الحروب ليست "أحداثًا محلية" معزولة، بل تجليات متزامنة لأزمة الإمبريالية العالمية وتفكك النظام الدولي الذي تشكّل بعد الحرب الباردة، حيث تتصارع قوى رأسمالية متنافسة على النفوذ والموارد في لحظة اهتزاز للهيمنة الأميركية.

الإمبريالية وأزمة النظام العالمي

في المنظور الماركسي، الإمبريالية ليست مجرد سياسة خارجية عدوانية، بل هي مرحلة من تطور الرأسمالية تتسم بسيطرة الاحتكارات، وتصدير رأس المال، وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ تخضع لصراع مستمر بين قوى كبرى. في هذه المرحلة، تصبح الحروب – المباشرة أو بالوكالة – أداة أساسية لإعادة تقاسم الأسواق والموارد والممرات الاستراتيجية، لا انحرافًا استثنائيًا عن "السلم الليبرالي".

أزمة الإمبريالية اليوم تعني أن البنية التي حكمت العالم منذ تسعينيات القرن الماضي – هيمنة أميركية شبه أحادية، وعولمة نيوليبرالية، ومؤسسات دولية ترعى هذه المنظومة – لم تعد قادرة على إعادة إنتاج استقرارها. صعود قوى منافسة مثل روسيا والصين، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتآكل شرعية الخطاب الليبرالي، كلها عناصر تدفع المراكز الرأسمالية إلى استخدام القوة العسكرية وأدوات الحرب الهجينة لتثبيت مواقعها أو توسيعها.

غزة: العنف الاستعماري كجزء من هندسة إمبريالية أوسع

حرب غزة ليست مجرد جولة جديدة في "نزاع فلسطيني–إسرائيلي"، بل استمرار لعقود من مشروع استعماري استيطاني محمي من المراكز الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والقوى الأوروبية. الكيان الصهيوني يقوم بدور متقدم في الاستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط، بوصفه رأس حربة عسكرية وأمنية ضمن منظومة تستهدف السيطرة على المنطقة وطرق الطاقة والتحالفات الإقليمية.

الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي المفتوح الذي تحظى به إسرائيل في عدوانها على غزة يكشف أن الأمر يتجاوز "حق الدفاع عن النفس" إلى وظيفة إمبريالية: سحق أي نموذج مقاومة، وترهيب الشعوب، وإعادة تشكيل الإقليم وفق مصالح واشنطن وحلفائها. في المقابل، تحوّل غزة إلى رمز عالمي، حيث ترى قطاعات واسعة حول العالم في صمودها تعبيرًا عن رفض شعبي للهيمنة الإمبريالية ذاتها التي تفقر العمال وتدمر الشعوب في أماكن أخرى.

السودان: حرب أهلية تُدار على خرائط المصالح

في السودان، انفجر صراع دموي بين أجنحة مسلحة خرجت من رحم جهاز الدولة والثورة المضادة، بعد انتفاضة شعبية أطاحت بحكم طويل، لكنّها لم تنجح في تفكيك بنية السلطة الطبقية والعسكرية. ما يبدو حربًا "داخلية" بين الجيش وقوة شبه عسكرية هو في الوقت نفسه عقدة يتقاطع فيها تدخل قوى إقليمية ودولية تتنافس على الذهب والموانئ والموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

قوى خليجية، وروسيا عبر شركات أمنية واقتصادية، وقوى غربية مختلفة، تحوّل السودان إلى ساحة لتصفية حسابات وتثبيت نفوذ، بينما يُدفع الشعب إلى المجاعة والنزوح والاقتتال الأهلي. هكذا تصبح الحرب تعبيرًا عن أزمة بنية إمبريالية تبحث عن منافذ جديدة للنهب والسيطرة في سياق تنافس متصاعد على الموارد والمواقع البحرية الحيوية.

أوكرانيا: ساحة صدام مباشر بين كتل رأسمالية متنافسة

الحرب في أوكرانيا تقدم نموذجًا واضحًا لحرب إمبريالية مركّبة؛ فمن جهة، تمارس روسيا عدوانًا توسعيًا يعبّر عن مشروع رأسمالي أوليغارشي يسعى لاستعادة نفوذ إمبراطوري في فضاء ما بعد السوفييت. ومن جهة مقابلة، يستخدم المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هذه الحرب لتوسيع مجال حلف شمال الأطلسي، وإعادة تأكيد قيادته للنظام الأمني في أوروبا، وإضعاف منافس روسي عبر استنزاف طويل الأمد.

أوكرانيا تُستخدم فعليًا كجبهة متقدمة لصراع على الموارد، وخطوط الطاقة، وممرات التصدير، وإعادة تشكيل منظومة الأمن الأوروبي، بينما تُرفع شعارات السيادة والديمقراطية أو مكافحة النازية لتغطية جوهر الصراع الطبقي والجيواستراتيجي. النتيجة هي تدمير واسع للبنية التحتية والاقتصاد الأوكراني، ومقتل وتهجير ملايين، في حرب لا يتحكم مسارها لا العمال الأوكرانيون ولا الروس، بل طبقات حاكمة ومعسكرات إمبريالية متنافسة.

شبكة حروب واحدة لا نزاعات متفرقة

عند النظر إلى غزة والسودان وأوكرانيا معًا، يتضح أن هناك خيوطًا مشتركة تربط هذه الحروب في بنية واحدة: شبكات تسليح عالمية، قواعد عسكرية، تحالفات إقليمية، وأسواق طاقة وغذاء وسلاح تتحكم بها نفس القوى الإمبريالية الكبرى. في كل حالة، تُستخدم الجغرافيا المحلية – ساحل، ممر، مورد طبيعي، عمق استراتيجي – كورقة في لعبة أكبر تهدف إلى إعادة ترسيم خرائط النفوذ في ظل اهتزاز النظام الدولي.

هذه الحروب تتغذى أيضًا على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العالمية: ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، أزمات الديون، تراجع معدلات النمو، وتصاعد المنافسة بين الكتل الرأسمالية. في مثل هذه اللحظات، تصبح الحرب أداة لإعادة توزيع الخسائر، وتمرير كلفة الأزمة إلى الشعوب، وفتح أسواق جديدة للسلاح وإعادة الإعمار، أي استمرار منطق التراكم الرأسمالي بالعنف المباشر.

أزمة الهيمنة الأميركية وتحول النظام العالمي

الولايات المتحدة لا تزال القوة الأهم عسكريًا وماليًا، لكنها تواجه اليوم استنزافًا استراتيجيًا بين جبهات متعددة: دعم عسكري ومالي هائل لأوكرانيا، حماية ودعم غير محدود لإسرائيل، وصراع متصاعد مع الصين في آسيا والمحيط الهادئ. هذا التشتت يعكس أزمة في القدرة على إدارة النظام الدولي منفردة، ويدفع واشنطن للاعتماد أكثر على التحالفات، والعقوبات الاقتصادية، والحروب بالوكالة لتعويض تراجع تفوقها النسبي.

في المقابل، تسعى روسيا، ومعها الصين بطرق مختلفة، إلى استثمار الفراغات والاختلالات لتوسيع نفوذهما في مناطق مثل أفريقيا والشرق الأوسط وأوراسيا. كذلك تدخل قوى إقليمية كتركيا وإيران وبعض القوى الخليجية على خط التنافس، ما يحوّل النزاعات إلى عقد متشابكة في صراع تعددية الأقطاب الوليدة، لا إلى حروب "محلية" مغلقة على ذاتها.

ثمن الحروب على الشعوب والطبقات العاملة

رغم أن الحروب تُدار بقرارات من عواصم وقصور رئاسية وغرف مجالس إدارة لشركات السلاح والطاقة، فإن فاتورتها تُدفع من دم ولحم المدنيين. في غزة، يتحول الحصار والقصف إلى إبادة وتمزيق لمجتمع كامل؛ في السودان، تدفع المجاعات والنزوح الجماعي ملايين إلى الهلاك أو الهجرة القسرية؛ وفي أوكرانيا، يُدمَّر الاقتصاد وتُشلّ حياة العمال والفلاحين لعقود قادمة.

على المستوى العالمي، تغذي هذه الحروب موجات لجوء ضخمة، وتشجع الدول على عسكرة الحدود، وتصاعد سياسات عنصرية وعداء للأجانب، بينما تُبرَّر سياسات التقشف ورفع الإنفاق العسكري بحجة "الأمن القومي". النتيجة أن الطبقات العاملة في المراكز والأطراف معًا تدفع ثمن حرب لا مصلحة لها فيها، سواء عبر القصف المباشر، أو الجوع، أو البطالة، أو الضرائب، أو انهيار الخدمات العامة.

ما وراء "المعسكرين": ضرورة أممية من أسفل

الخطاب السائد يحاول حشر الشعوب في معركة اختيار "معسكر": إمّا الاصطفاف وراء المعسكر الغربي تحت لافتة الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو تبرير معسكر روسي–صيني أو إقليمي تحت لافتة مناهضة الإمبريالية. في الحقيقة، جميع هذه الكتل تمثّل مصالح برجوازيات وطنية أو عابرة للحدود، تستغل العمال وتخنق الشعوب داخل حدودها وخارجها، وإن اختلفت في موقعها داخل الهرم الإمبريالي.

المنظور الماركسي الأممي يستدعي تجاوز منطق "المعسكرات" لصالح أممية من أسفل: تضامن بين العمال والمضطهدين في غزة والخرطوم وكييف وموسكو ولندن ونيويورك ضد جميع القوى الإمبريالية والطبقات الحاكمة. هذا يعني الدفاع عن حق الشعوب في التحرر والعدالة الاجتماعية، مع استقلال كامل عن مشاريع الطبقات الحاكمة، وبناء روابط تنظيمية ونضالية تتحدى منطق الحرب وتربط بين النضال ضد القصف والاحتلال، والنضال ضد الفقر والاستغلال في قلب المراكز الرأسمالية.

الحروب كمرآة لانهيار نظام بلا بديل جاهز

تكاثر الحروب الإقليمية في السنوات الأخيرة ليس خللًا موضعيًا يمكن إصلاحه ببعض الدبلوماسية، بل عرض مركّز لأزمة عميقة في بنية الإمبريالية العالمية، حيث تعجز الرأسمالية عن إدارة تناقضاتها دون اللجوء إلى العنف واسع النطاق. من غزة إلى السودان وأوكرانيا، تكشف ميادين القتال حدود النظام الذي يدّعي إدارة العالم عبر "قانون دولي" و"نظام قائم على القواعد"، بينما تستباح حياة الشعوب كلما تطلبت مصالحه ذلك.

لكن هذا الانهيار لا يضمن ولادة عالم أكثر عدلًا من تلقاء نفسه؛ فإمّا أن يُعاد تركيب نظام أكثر توحشًا على أنقاض الحروب، أو تُنتزع من رحم هذا الخراب حركة أممية ثورية قادرة على وصل نضالات الشعوب ضد الاحتلال والحرب والاستغلال، وفتح أفق لتجاوز الإمبريالية والرأسمالية ذاتها.