ثقافات
هاني عبد العزيزسور الأزبكية.. منارة ثقافية تقاوم الزمن
2025.06.14
مصدر الصورة : آخرون
سور الأزبكية.. منارة ثقافية تقاوم الزمن
"سور الأزبكية" اسم الذي ظل يتردد على ألسنة كُلِّ الكُتَّابِ والمثقفين في مصر والعالم العربي، فهو السور العريق الذي شكَّل ولعقود طويلةٍ منزلةً خاصة لدى المثقف المصري والعربي، امتدت لأكثر من قرن من الزمان.
سور الأزبكية شاهد على العصر بما يحويه من أمهات الكتب القديمة التى تحمل بين طياتها رائحة الزمن وعبق الماضي، كما أنه يزخر بالمجلات والصحف القديمة التي توثق لتاريخ مصر، والتى خرجت إلى النور بعد أن تخلص منها ورثتها بعد أن وجدوها لا تغني عنهم شيئًا، فتصل إلى يد قارئ يسعى إلى الاطلاع والمعرفة مع ضيق ذات اليد.
قُدر لهذا السور العظيم أن يصبح منذ إنشائه أشهر رصيف ثقافي في العالم العربي يرتاده كل أقطاب الفكر والفن والثقافة وطلاب العلم والباحثين من طلاب الجامعات المصريين والعرب والآسيوين والأفارقة الدارسين في مصر.
ويعتبر سور الأزبكية حلًّا عبقريًّا لرقة أحوال كثير منهم في توفير زادهم الثقافي، وملجأ أساسي للكتب العلمية باهظة الثمن التي تباع بأقل من نصف ثمنها، حتى إن الأديب سليمان فياض أطلق عليه "جامعة الفقراء" حيث يجد الراغبون في القراءةِ من الفقراء ضالَّتَهُم بأسعار زهيدة، وأطلق عليه البعض معرض كتاب الغلابة.
رواد السور
يُذكر أن الرئيس جمال عبدالناصر كان يتردد بنفسه عليه لاقتناء الكتب وكذلك الرئيس أنور السادات والذي كان من رواده قبل أن يُصبح رئيسًا لمصر وبعد أن أصبح رئيسًا لها.
وكان من الرواد أيضًا بعض مشاهير الأدباء والشعراء والسياسيين، منهم على سبيل المثال نجيب محفوظ، وإبراهيم عبدالقادر المازني، عباس محمود العقاد.
نشأة وتطور سور الأزبكية الثقافي
تعود فكرة نشأة "سور الأزبكية" إلى عام 1907، فى المنطقة التى عرفت بالأزبكية منذ أواخر القرن الرابع عشر، نسبة إلى الأتابك سيف الدين أزبك أحد قادة الجند، والتي منحها له السلطان قايتباى، وقد جملها أزبك وزينها بالبِركة التى تحمل اسمها، حتى أمر الخديوي إسماعيل بردمِها، وإنشاء حديقة الأزبكية، والتى ظهر سوق الكتب على أسوارها الحديدية.
قبل نشأة مكتبات سور الأزبكية كان يجوب باعة الكتب المنطقة، ويتجولون ببضاعتهم على رواد المقاهي والمسارح في وسط القاهرة، ثم يتخذون من سور حديقة الأزبكية، مكانًا للتجمع والراحة وتبادل الكتب، حتى بدءوا في افتراش الأرض بالكتب، متخذين من سور الحديقة مكانًا لتجمعهم.
حينها بدأ الناس الذين يرغبون بشراء الكتب بالقدوم إلى السور من أجل شراء الكتب من الباعة وهنا ارتأى البائعون أنه يمكنهم بيع الكتب في نفس المنطقة دون الحاجة إلى التنقل طوال النهار.
لكن البداية الحقيقية للسوق كانت في عام 1933 حينما استأجر أحد بائعي الكتب ويدعى "المعلم أحمد الحكيم الكتبي"، كشكًا من البلدية مقابل 240 قرشًا يدفعها شهريًّا، ونشر بضاعته من الكتب على جزء من سور الأزبكية، ثَمّ تبعه زملاؤه من البائعين، وبمرور السنوات استقرت تجارة الكتب فى هذا المكان، وهكذا ولدت مكتبات سور الأزبكية، والتي توسّعت وتقنّنت خلال السنوات التالية.
كانت تجارة الكتب في الأزبكية غير مقننة، وتعرض هؤلاء التجار للملاحقة المستمرة من بلدية القاهرة ومصادرة بضائعهم، لعدم حصولهم على التراخيص اللازمة لمزاولة المهنة، ولقرب المنطقة من المصالح الحكومية.
وفى غضون عام 1949 توجه بائعو الكتب جميعًا وكان عددهم 31 بائعًا إلى مجلس الوزراء والتقوا بـ"مصطفى باشا النحاس" رئيس حكومة الوفد، الذي تعاطف معهم وأصدر أوامره إلى بلدية القاهرة بمنحهم التراخيص اللازمة لمزاولة المهنة، ومنع التعرض لهم، ليكون بذلك أول اعتراف رسمي من الدولة بسوق الكتب على سور حديقة الأزبكية، واعتراف ضمني بالدور الثقافي للسور.
بعد يوليو 1952 ظلت حديقة الأزبكية على عهدها برغم التغيرات التي طرأت عليها، فقد تحولت إلى منتزه عام، وتم إزالة سورها الحديدي الأسود، وإقامة سور حجري بدلا منه.
وعادت الأحوال لتسوء مرة أخرى، فتوجه الباعة للمرة الثانية عام 1959 إلى الدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الدولة والمسؤول عن الإذاعة والإعلام العربي آنذاك، الذى استصدر قرارًا بتنفيذ أكشاك خشبية للبائعين لتنظيم كتبهم وإصدار التصاريح الرسمية لهم بمزاولة المهنة بشرط ألا يغيروا نشاطهم.
وتحولت الأكشاك الخشبية مع مرور الوقت إلى مكتبات ثقافية ومنارة فكرية، وتدريجيًّا تحول المكان إلى معرض دائم ومفتوح للكتب القديمة، يمتد من العتبة وحتى تمثال إبراهيم باشا، جاوزت المئة والثلاثين مكتبة، يتاخمها ثلاثة مسارح عظيمة هي القومي والطليعة والعرائس، بالإضافة إلى الأوبرا الخديوية..
وتنامت التجارة وتضاعف أعداد البائعون عشرات المرات حتى بلغوا 310 تاجر كتب.
سور السيدة
وفي غضون عام 1983 فكرت الحكومة في تخفيف العبء عن شارع الأزهر بعمل كوبري لتخفيف الزحام الذي خلقته الحركة التجارية، ونقلت تجارة الكتب من سور الأزبكية إلى سور السيدة زينب، بسبب أعمال وضع أساسات كوبري الأزهر، إلا أن تجار سور الأزبكية لم يقبلوا بالنقل الإجباري، بأن طعنوا على قرار الحكومة بإقامة دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية وجاء الحكم لصالح التجار، والترخيص لهم بالعمل في السور، وقد عادوا بالفعل بعد خمس سنوات.
وتكرر الأمر عام 1993 ولمدة أربع سنوات عندما بدأت الحكومة في أعمال إنشاء محطة مترو الأنفاق بميدان الأوبرا، وفي هذه المرة تم نقل التجار إلى منطقة الحسين بجوار مستشفى الحسين الجامعي.
وقاد المثقفون حملة إعلامية كبيرة لإعادة اهتمام الدولة بمكتبات سور الأزبكية كأحد معالم القاهرة الثقافية، حتى استجابت الحكومة لهم، وعاد السوق من جديد عام 1998.
سور الازبكية داخل معرض القاهرة الدولى للكتاب
إلى جانب تخصيص الهيئة المصرية العامة للكتاب أحد الأجنحة المفتوحة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، لعرض كتب سور الأزبكية، خصصت إدارة المعرض خيمة كاملة لبائعي "سور الأزبكية" ليعرضوا بها كل الكتب التي يحتاجها المثقف والمواطن العادي، بأسعار زهيدة وفي متناول الجميع، إلا أنهم لم يتواجدوا في أخر دورة للمعرض بسبب شروط وضعتها الإدارة ورفضها الباعة، وقرروا عمل معرض للكتب موازٍ في منطقتهم.
سور الأزبكية بعد ثورة 25 يناير
عقب ثورة يناير 2011، تراجعت أهمية السور نوعًا ما، نظرًا إلى حاجة القراء إلى فهم ما يجري من أحداث سياسية بشكل أكبر، إضافة إلى الانفلات الأمني، الذي أدى إلى انصراف بعض المكتبات إلى أماكن أخرى داخل القاهرة.
وظهرت فكرة نقل سور الأزبكية من جديد عام 2013 لكن البدائل كانت غير مناسبة، مع إصرار تجار الكتب على وجودهم فى هذا الموقع التاريخى، ونظرًا إلى الأوضاع الأمنية آنذاك، تم إرجاء الفكرة.
"سور أزبكية مصغر" فى أماكن أخرى
نشأت في عدة مواقع داخل القاهرة الكبرى ما يمكن اعتباره "سور أزبكية صغر"، أهم هذه المواقع هي:
- سور جامعة القاهرة. ويقع على امتداد أسوار الجامعة، حيث ينتشر باعة الكتب على أرصفة الجامعة بأسعار مخفضة لتتناسب مع ميزانيات الطلبة.
- سور السيدة زينب. ويقع على بعد خطوات من محطة المترو حيث تتواجد به أكثر من 40 مكتبة بأسعار زهيدة، إضافة إلى الكتب الجديدة.
- سور دار القضاء العالى. ويقع على الرصيف الممتد من مبنى دار القضاء والمقابل لمبنى الإسعاف بشارع رمسيس.
- بالإضافة إلى سوق الكتب خلف الجامع الأزهر.
سوق ديانا
وفي السنوات الأخيرة ظهر منافس جديد لسور الأزبكية، حيث انتعشت تجارة الكتب القديمة فيما يعرف بـ"سوق ديانا" لتجارة التحف والأنتيكات المستعملة والعملات القديمة، وأطلق على هذا السوق تلك التسمية نسبةً إلى سينما "ديانا بالاس" العريقة التي يقع السوق في محيطها بشارع الألفي بوسط القاهرة الخديوية، ويقام السوق أسبوعيًّا كل يوم سبت، ويرتكز سوق الكتب خلف بنك فيصل الإسلامي أمام فندق كونتيننتال العريق، بالقرب من محطة مترو العتبة.
أزبكية الأردن
تم استنساخ تجربة سور الأزبكية في مصر ونقلها إلى عمَّان عام 2011 لتعزيز الوعي الثقافي لدى الناس، وفتح المجال أمامهم لشراء الكتب بسعر زهيد، وفي مارس 2015 قامت النسخة السادسة من معرض "أزبكية عمَّان" لبيع الكتب، وسط إقبال شعبي لافت.
نوادر سور الأزبكية
عزيزى القارئ لا تندهش كثيرًا إن عثرت أثناء تجولك في سوق سور الأزبكية على مخطوط قديم، أو كتاب نادر لم تكن لتجده خارج هذا المكان، فمكتبات سور الأزبكية مليئة بالكنوز التي قد يكون باعتها أنفسهم لا يعرفون قيمتها الثقافية، فضلًا عن أسعارها الزهيدة التي لا تتناسب مع قيمتها.
ومعظم مقتنيات سور الأزبكية مصدرها إما من المزادات أو من باعة الروبابيكيا أو لصوص القصور من الخدم أو من ورثة أصحاب المكتبات الذين لم يُقدّروا قيمة هذه الثروة.
ووفقًا للأستاذ عبدالصمد السيد "حكواتى المحروسة "، فإن من أشهر ما سُرق من مكتبات كبار الدولة وبيع في السور مكتبة علي ماهر رئيس وزراء مصر الأسبق ومكرم عبيد الزعيم الوفدي.
أما مكتبة المفكر سلامة موسى فقد باعها الورثة لتجار السور، بعد أن رفضت دار الكتب المصرية شراءها.
وكذلك مكتبة المستشار محمود بك السبع التي كانت تحتوي على مجموعة من الكتب الأجنبيّة النادرة ومنها نسخة من كتاب "الحملة الفرنسية" المطبوع في فرنسا، والمكون من 36 مجلدًا والذي اشتراه الشيخ "عبدالرحمن الشربيني" شيخ الأزهر والفقيه الشافعي، من الورثة بـ 300 جنيه عام 1958 ثمّ باعه في أوائل الستينيات بـ 4000 جنيه! محققًا أكبر ربح في حياته.
كما لجأ الضباط الأحرار إلى تجار السور لإمدادهم بأي وثائق أو مذكرات أو معلومات عن الأسرة المالكة.
كما عثر على نسخة من مسرحية بعنوان: "وفاء العرب" لـ"أنطون الجميل" رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق، المطبوعة سنة 1909 وعليها إهداء بخط يد الكاتب إلى الزعيم سعد زغلول.
كما عثر على نسخة نادرة من كتاب "ألف ليلة وليلة" عمرها مئة عام.
التطوير.. وإزالة ما تبقى من السور!
وأخيرًا أعلنت الحكومة المصرية عن خطة لتطوير حديقة الأزبكية وميدان العتبة وتجميل محيط المسرح القومي، وذلك ضمن مشروع تطوير القاهرة التاريخية، وإعادة تخطيط وتطوير المنطقة، ونقل مكتبات سور الأزبكية إلى الساحة المجاورة لسنترال الأوبرا مع تصميم أكشاك جديدة لهذا الغرض، وفقًا للدكتور ماهر ستينو، استشاري المشروع.
ويظل السور رافدًا أساسيًّا للثقافة المصرية والعربية وأشهر رصيف ثقافي في العالم العربي ليضع الفكر المستنير بين أيدي كل فئات الشعب.
المصادر:
1- الهيئة العامة للاستعلامات، سور الأزبكية.. أشهر رصيف ثقافي في العالم العربي
الرابط : https://www.sis.gov.eg/Story/123728
2- محمد بركة، سور الأزبكية.. منارة ثقافية في طريقها إلى الاندثار
http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-53-12691.htm
ترشيحاتنا
