فنون
أشرف إبراهيمالعدسة النسوية في السينما المصرية: من الهامش إلى منصات الجوائز… هل تغيّر شيء فعلًا؟
2025.12.20
العدسة النسوية في السينما المصرية: من الهامش إلى منصات الجوائز… هل تغيّر شيء فعلًا؟
خلال السنوات الأخيرة، تكررت على أغلفة المهرجانات السينمائية وفي بيانات الجوائز عبارات من قبيل «صوت نسائي جديد» و«عدسة نسوية مختلفة». تتقدّم إلى الواجهة أسماء مخرجات مصريات وعربيات، تحصد أفلامهن جوائز، وتُناقش أعمالهن في ندوات وملفات نقدية، بينما تتباهى المنصات الرقمية بإنتاج أو عرض أعمال «بعيون نسائية». تبدو الصورة لأول وهلة مبشّرة: النساء لم يعدن مجرد موضوع للنظر على الشاشة، بل أصبحن أيضًا من يمسكن بالكاميرا، ويحددن زاوية الرؤية.
لكن خلف هذا البريق تظهر أسئلة أصعب: إلى أي مدى يعكس هذا الصعود تحوّلًا حقيقيًا في بنية الصناعة وفي علاقة السينما بجسد المرأة وحياتها؟ وهل يمثل تعميقًا لخطاب نسوي نقدي، أم استيعابًا سوقيًا لـ«موضة» النسوية في إطار يمكن هضمه رقابيًا وتسويقيًا؟ ما الذي تغيّر فعلًا في طبيعة القصص التي تُروى، وفي موقع النساء داخل عملية الإنتاج، وما الذي بقي ثابتًا من ميراث طويل لصناعة يهيمن عليها الرجال في الكتابة والإخراج والتمويل؟.
أولًا: تاريخ سريع لتمثيل المرأة في السينما المصرية
منذ البدايات الأولى للسينما المصرية، ظهرت المرأة بكثافة على الشاشة، ولكن في أطر نمطية واضحة: الأم المضحية، الزوجة المخلصة، الفتاة الساذجة التي تنتظر فارس الأحلام، أو الراقصة المغوية التي تهدد النظام الأخلاقي قبل أن يُعاد «تأديبها» في النهاية. كانت البطلات نجمات، لكن أغلب القصص كُتبت وأُخرجت وأُنتجت من منظور ذكوري يحدد ما هو مقبول من المرأة وما هو مرفوض، ويكافئها أو يعاقبها تبعًا لمدى التزامها بهذا الدور.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن رائدات مبكرات لعبن دورًا تأسيسيًا في الصناعة نفسها، قبل أن تُقصى أسماؤهن تدريجيًا إلى الهوامش. يكفي التذكير بأن أول فيلم روائي مصري طويل حملت مسؤولية إنتاجه وبطولته – ومشاركة في إخراجه – امرأة هي عزيزة أمير في «ليلى» (1927)، وأن أسماء مثل آسيا داغر وبهيجة حافظ شاركت في الإنتاج والإخراج والتمثيل في الثلاثينيات والأربعينيات، قبل أن تتحول الصناعة لاحقًا إلى فضاء يطغى عليه حضور الرجال في مقاعد القرار. هذه المفارقة – وجود نساء في قلب لحظة التأسيس، ثم تضييق حضورهن خلف الكاميرا لاحقًا – تظل خلفية مهمة لفهم اللحظة الراهنة.
في العقود اللاحقة، قدّمت السينما المصرية طيفًا واسعًا من صور النساء؛ من المرأة المقهورة في أفلام مثل «الحرام» و«الزوجة الثانية» و«القاهرة 30»، إلى المرأة «المتحررة» في بعض أفلام السبعينيات والثمانينيات التي ربطت الحرية غالبًا بالطبقة الوسطى المدينية وأساليب حياة استهلاكية. ورغم أن بعض هذه الأعمال حمل نبرة نقدية حقيقية لوضع المرأة في الأسرة والمجتمع، فإن الهيكل العام للحكي ظل يخدم تصوّرًا ذكوريًا للعالم، حيث تبقى البطولة النهائية للرجل الذي يملك سلطة الحسم الأخلاقي والسردي.
ثانيًا: موجة المخرجات الجدد – من المهرجانات إلى المنصات
مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية، تزايد حضور المخرجات في السينما المصرية والعربية عبر مسارات متوازية: أفلام قصيرة وتسجيلية خرجت من ورش ومعاهد، ثم أفلام روائية طويلة غالبًا ما بدأت مسيرتها في المهرجانات قبل أن تصل – بدرجات متفاوتة – إلى الجمهور الأوسع. ساعد على ذلك توسع البنية التحتية للمهرجانات وورش التطوير والإنتاج المشترك، ثم لاحقًا صعود المنصات الرقمية التي تحتاج إلى محتوى مختلف وتتحمل أحيانًا قدرًا أعلى من الجرأة في الموضوعات والشكل.
هذه الموجة قدّمت نماذج متباينة: أفلام تتمحور حول تجارب نساء في الحيز العائلي أو في سوق العمل أو في علاقة الجسد بالمجتمع، وأخرى تعالج قضايا مثل العنف الأسري والتحرش والقيود على حرية الحركة والاختيار. كثير من هذه الأعمال خرج من خلفية طبقة متوسطة/عليا، بلغات بصرية متأثرة بالسينما الأوروبية المستقلة، والتركيز على تفاصيل اليومي أكثر من الميلودراما التقليدية. هنا، تتقدم شخصيات نسائية معقدة، ليست «ملاكًا» ولا «شيطانة»، بل أفرادًا يتفاوضن مع سلطة العائلة والدولة والسوق في آن واحد.
في الوقت ذاته، استوعبت الصناعة التجارية بدورها هذا الحضور عبر إتاحة مقاعد لمخرجات في أفلام جماهيرية أو مسلسلات لمنصات، غالبًا في إطار موضوعات يمكن تسويقها بسهولة تحت لافتة «قصة عن النساء» دون أن تمس جذور البنى الأبوية أو الطبقية. يصبح «الفيلم النسائي» أحيانًا مجرد عمل ببطولة نسائية وديكور أنيق، يرسل رسائل عامة عن «قوة المرأة» و«تحقيق الذات»، بينما يظل بناء السلطة في العلاقات والعالم المعروض على الشاشة شبه ثابت.
ثالثًا: ما معنى «عدسة نسوية»؟
لا تكفي هوية المخرِجة أو جنسها البيولوجي ليكون العمل «نسويًا»؛ فالمسألة في النهاية تتعلق بالمنظور الذي يُبنى من خلاله العالم السينمائي. العدسة النسوية، بالمعنى الواسع، هي محاولة لنقل مركز الثقل في الحكي من الرجل – كفاعل أول ومقياس للحقيقة – إلى النساء بوصفهن ذواتًا تنظر وتتكلّم وتقرر، لا مجرد أجساد تُرى وتُقيَّم. هي كذلك سعي لتفكيك ما سمّاه النقد السينمائي بـ«النظرة الذكورية»؛ أي تحويل المرأة إلى موضوع متعة بصرية، وقياس قيمتها بمدى ملاءمتها لمعايير جمالية وأخلاقية يحددها الرجال.
يتجلى هذا التحول في عناصر عديدة:
- في طريقة وضع الكاميرا: من تصوير الجسد النسائي مجزّأً أو متركزًا على مناطق بعينها، إلى تصويره كجسد يعيش العالم ويمر بالتجارب، لا كغرض للمشاهدة.
- في بناء الشخصيات: من امرأة تُعرَّف بعلاقتها بالرجل (زوجة، أم، حبيبة) إلى شخصية لها مسارها الخاص، حتى لو ظل الرجل حاضرًا في حياتها.
- في خطوط السرد: من قصص تنتهي بزواج أو تضحية متوقعة، إلى نهايات مفتوحة أكثر تعقيدًا، تعترف بحق البطلة في اختيار لا يرضي المجتمع أو الأسرة أو الجمهور عمومًا.
مع ذلك، تختلف مواقف المخرجات والمخرجين من هذه الأسئلة؛ فهناك أعمال لنساء تعيد إنتاج نفس القوالب الذكورية أو الطبقية، وتستخدم «قصة عن النساء» لبيع منتج متصالح بالكامل مع قيم السوق والمحافظة الاجتماعية. وفي المقابل، يمكن أن يقدّم مخرج رجل فيلمًا تنفتح رؤيته على أسئلة نسوية واضحة، نتيجة وعي سياسي أو تفاعل مع حركات اجتماعية أوسع. لذلك تبدو «العدسة النسوية» مفهومًا إجرائيًا أكثر من كونه علامة مضمونة لمجرد وجود امرأة خلف الكاميرا.
يبقى بُعد الطبقة حاسمًا هنا؛ فمعظم ما يُحتفى به عادة كـ«سينما نسوية» يخرج من دوائر متمركزة في المدن الكبرى، ويمثل في الأغلب نساء من شرائح متوسطة وعليا: معاناتهن حقيقية، لكنهن يملكن عادة هامشًا من التعليم واللغة والموارد لا يتوفر لغالبية النساء في القرى والأحياء الفقيرة. السؤال إذن: أين موقع العاملات، وربّات البيوت في أطراف المدن، وساكنات الريف والعشوائيات، في هذا الخيال البصري الذي يقال إنه يتحدث باسم «النساء»؟.
رابعًا: الصناعة والسوق والرقابة – حدود الحرية المتاحة
أي عدسة – نسوية أو غيرها – لا تتحرك في فراغ، بل داخل بنية إنتاج وتمويل وتوزيع تفرض شروطها بطرق صريحة وضمنية. في السينما المصرية والعربية الأوسع، يوجد ثلاثي متشابك يحدّد ما يمكن أن يُقال وكيف يُقال: السوق، والرقابة الرسمية، والرقابة المجتمعية/الإعلامية. هذا الثلاثي يرسم «إحداثيات» المجال المسموح: يمكن انتقاد تحرش فردي أو أب متسلط، لكن يصعب المساس ببنى أعمق مثل عنف الأجهزة، أو التحالف بين رأس المال والإعلام الذي يبيع صورة معينة عن "المرأة الناجحة".
السوق، من جانبه، يتبنى بسهولة الخطابات القابلة للتسليع؛ فيُرحِّب بقصص «الإلهام» و«التمكين» التي تنتهي بنجاح بطلة في مهنة مرموقة أو زواج متكافئ، لكنه يتحفظ على أعمال تجعل المتلقي غير مرتاح: أفلام عن جسد لا يلتزم بمعايير الجمال السائدة، أو عن نساء يرفضن الأمومة والزواج أصلاً، أو عن رغبات وجنسانية تتجاوز المقبول اجتماعيًا. الرقابة الرسمية بدورها تضع خطوطًا حمراء على ما تعتبره «خدشًا للحياء» أو «مساسًا بالدين والأسرة والقيم»، بينما تقوم وسائل الإعلام بحملات تشهير عند كل عمل يتجاوز الحدود غير المكتوبة.
في هذا السياق، يصبح على المخرجات (والمخرجين المتحالفين مع خطاب نسوي) أن يطوّروا تكتيكات مختلفة: التخفيف من حدّة اللغة المباشرة، استخدام التلميح بدل التصريح في بعض القضايا، تمرير نقد بنيوي عبر تفاصيل الحياة اليومية بدل الشعارات، أو اللجوء للإنتاج المشترك والتمويل الأجنبي مع مخاطرة الابتعاد عن الجمهور المحلي. أحيانًا تنجح هذه المناورات في خلق أعمال حادة ومؤثرة، وأحيانًا تتحول إلى تسويات تفقد العمل قوته، فيتحول النقد إلى "ديكور" آمن.
بين خطوة للأمام وظلال قديمة
لا شك أن صعود جيل من المخرجات والكاتبات والمصورات قد غيّر شيئًا مهمًا في ملامح السينما المصرية والعربية؛ فقد اتسعت مساحة القصص التي تُروى عن النساء، وتنوّعت الخلفيات، وظهر وعي أكبر بحساسية تمثيل الجسد والعنف والحميمية، كما بات من الصعب تمرير صور فجة للمرأة دون أن تواجه نقدًا علنيًا من جمهور نسوي أوسع. كل هذا يمثل مكسبًا حقيقيًا لا ينبغي التقليل منه.
لكن في الوقت نفسه، لا يمكن الاكتفاء بالاحتفاء الرمزي دون مساءلة البُنى التي تتحكم في الصناعة: من يملك الكاميرا فعلاً، من يموّل، من يوزّع، ومن يحدد الذوق العام وما يُعتبر «مناسبًا للأسرة» أو «جريئًا أكثر من اللازم». ما زالت أغلبية النساء العاملات في السينما في مواقع أدنى أجرًا وأقل تأثيرًا في القرار، وما زالت قصص كثير من النساء المهمّشات غائبة أو محصورة في أطر فلكلورية أو متعالية.
ربما يكون التحدي في السنوات المقبلة هو الانتقال من «حضور نسوي» داخل قواعد اللعبة نفسها، إلى إعادة التفاوض على قواعد اللعبة ذاتها: توفير مساحات إنتاج مستقلة حقًا، تحالفات بين سينمائيات وناشطات وحركات اجتماعية، وخلق لغة بصرية لا تكتفي بتصحيح صورة المرأة، بل تُسائل النظام الذي أنتج هذه الصورة واستفاد منها. عند هذه النقطة فقط، يمكن الحديث عن «عدسة نسوية راديكالية» لا تكتفي بأن تنظر من زاوية جديدة، بل تغيّر شكل الغرفة كلها.