عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

راجي مهدي

السويداء.. فصل جديد من المجزرة السورية

2025.07.27

مصدر الصورة : آخرون

"الطائفية هي الشكل الأيديولوجي للهيمنة السياسية للبرجوازية التابعة" - المفكر اللبناني مهدي عامل

 

في الثالث عشر من يوليو الجاري، اندلعت اشتباكات عنيفة بين الفصائل الدرزية المسلحة والعشائر البدوية المنتشرة على تخوم محافظة السويداء. الشرارة التي أحرقت السهل هي بحسب البعض قتل أحد الدروز من بلدة عتيل على أيدي العشائر، غير أن جذر الصراع يمتد قديمًا لخلافات على الأراضي بحسب تصريح لعلاء عرفات أمين عام حزب الإرادة الشعبية السوري. وقد يكون هذا صحيحًا غير أنه لا يفيد كثيرًا في فهم تلك الجولة من الاقتتال الداخلي في سوريا.

منذ أن اندلعت المجازر في الساحل السوري في 6 مارس 2024، اتخذت الأوضاع في سوريا اتجاهًا للتمترس الطائفي في غياب الدولة التي سقطت قبل أن يسقط البعث ويهرب بشار الأسد. وفي غياب الدولة، وأي دور فاعل للتعبئة السياسية الحزبية، وقيام قوى مسلحة بفرض هيمنتها على العاصمة دون أن تطرح نفسها كممثل للجميع، يصبح رد الفعل البدائي البسيط هو التخندق الطائفي في مواجهة الآخر.

ما حدث في الساحل كان تمهيدًا متسقًا لما حدث في السويداء. خاصة وأن لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها السلطات السورية في 9 مارس 2025 للتحقيق في الانتهاكات وجرائم الإبادة التي حدثت في مدن الساحل قد قدمت تقريرها النهائي لأحمد الشرع -أبو محمد الجولاني سابقًا- بعد ثلاثة أشهر في 20 يوليو الجاري، بينما كانت أحداث السويداء في مراحلها الأخيرة، وكان من الممكن أن تنتهي من عملها خلال 30 يوم.

وقد شككت جهات عدة كالمرصد السوري لحقوق الإنسان والمجلس العلوي الأعلى في حيادية اللجنة وفي خطوات عملها. خلَص تقرير اللجنة إلى أن أحداث الساحل بدأت بهجوم مجموعات تابعة لنظام الأسد على قوات الأمن المتمركزة في منطقة الساحل ما تسبب في مقتل 200 من عناصرها، ردت السلطات بتحريك حوالي 200000 مسلح إلى المنطقة لصد الهجوم وقد حدثت تجاوزات وانتهاكات "واسعة لكن غير منظمة" بحسب التقرير من ضمنها السرقة والقتل والتحريض الطائفي وأدت إلى مقتل حوالي 1400 مواطن، غير أن التقرير يؤكد أن تلك القوات توجهت إلى المنطقة لفرض الأمن ولم تتلقَّ أي تعليمات من قادتها بارتكاب تلك التجاوزات بحسب تصريحات المتحدث باسم اللجنة ياسر الفرحان، الذي كان حريصًا اليوم وبعد ما حدث بالسويداء على تقديم صورة سلطة ملتزمة بحقوق الإنسان والمواطنة.

والحقيقة أن لجنة تقصي الحقائق تلك محاولة من سلطة الأمر الواقع السورية لغسل الأيدي من مجزرة راح ضحيتها حوالي 1500 فرد من الطائفة العلوية، حين اجتاحت الفصائل المنضوية تحت لواء وزارتي الداخلية والدفاع منطقة الساحل على خلفية تمرد مزعوم قامت به مجموعات من فلول النظام السابق، غير أنها محاولة لم تقنع الكثيرين وضاعفت مخاوف الأقليات السورية من عمليات تطهير وانتقام تقوم بها الفصائل التي دخلت دمشق تحت لواء هيئة تحرير الشام. فالسلطة الجديدة فشلت في الظهور بمظهر سلطة فوق طائفية، بل إنها وجمهورها المنحصر فقط في قطاعات من السنة السوريين قدموا أنفسهم باعتبارهم انتصروا على قهر الأقلية الطائفية الذي مثلته سلطة البعث وتحديدًا سلطة الأسدين. يأتي تقرير اللجنة بعد أيام من مجازر السويداء كمحاولة أيضًا لاستعادة الرضا الأمريكي بشكل أساسي وقتما كان الكونجرس بصدد تمديد العقوبات على سوريا، التي كانت قد عُلِّقت بجهود تركية وأوروبية وعربية.

اندلعت معارك السويداء إذن في ظل شكوك عميقة من كل الأقليات تجاه نوايا السلطة في دمشق، ولم تكن العشائر العربية حول السويداء تتصرف على خلفية صراع قديم مع الدروز في المحافظة حول الأراضي، ولا لتصفية خلافات ثأرية، وإنما تحركت تلك العشائر بتنسيق فعلي مع سلطة الجولاني في دمشق، أولًا لأن السلطة الجديدة لم تكن تريد تكرار مأساة الساحل بأيديها، وثانيًا لأن السويداء تقع تحديدًا في جنوب سوريا ضمن ما تعتبره إسرائيل أرضًا حرامًا لا يجوز لأي سلطة في دمشق ولو كانت موالية أن تحرك فيها قطعًا عسكرية أو تتواجد فيها من الأساس إلا بتنسيق تام مع تل أبيب وفق خطوط تضعها الأخيرة.

افتتحت العشائر المعركة، غير أن عناصر أمن السلطة سرعان ما دخلوا على الخط تحت شعار استعادة الأمن في السويداء تارة، وشعار استعادة السويداء إلى الجسد السوري في مواجهة عناصر انفصالية تارة أخرى. مع اشتداد الانتهاكات في السويداء طالب حكمت الهجري أحد مشايخ الدرزية المعروف بتفاهماته مع إسرائيل، طالب المجتمع الدولي بحماية الدروز من مجزرة. هذه المطالبات استخدمتها السلطة في تسخين الصدع الطائفي في سوريا، وإضفاء مشروعية على ما حدث في السويداء. يشير تقرير لرويترز إلى أن سوء فهم قد دفع الجولاني إلى اتخاذ قرار حسم الأمر في السويداء. سوء فهم ناتج من تصريحات المبعوث الأمريكي لسوريا ولبنان توم براك، التي قال فيها إن الولايات المتحدة تفضل قيام سلطة دولة مركزية في سوريا ولا تدعم فدرلتها، التصريح الذي اعتبره الجولاني ضوءًا أخضر من واشنطن يتيح له حرية الحركة في السويداء دون أي مواجهة مع إسرائيل. غير أن إسرائيل ما لبثت أن قصفت مقرات وزارة الدفاع وقيادة الأركان في دمشق واستهدفت قوات الجولاني التي دخلت السويداء. يضيف تقرير رويترز أيضًا أن القوات التي دخلت السويداء وارتكبت المجازر التي انتشرت مقاطع لها عبر الإعلام وهي تنفذ إعدامات وحشية على الهوية، أن تلك القوات لم تكن بالكامل تحت سيطرة الجولاني نظرًا إلى كونها تجميعًا لميليشيات إسلامية عديدة.

في 16 يوليو وجهت إسرائيل ضربات جوية إلى منشآت عسكرية سورية في دمشق ولبعض القوات العاملة في السويداء، جاء هذا التدخل الإسرائيلي كمفاجأة لحكومة الأمر الواقع في دمشق، حيث كان الطرفان على مستوى عالٍ من التفاوض في أذربيجان برعاية تركية، غير أن نشر الجولاني لقوات عسكرية في السويداء جاء تعديًا لخطوط حمراء أكدت عليها إسرائيل، تستهدف من ورائها عدم نشر أي قوات عسكرية في جنوب سوريا كحزام أمني يشمل السويداء ودرعا. حزام أمني لا تفاوض عليه أيًّا كانت الحكومة العاملة في دمشق وأيًّا كان مستوى التنسيق معها، أضف إلى ذلك أن إخضاع السويداء ودروزها يمنح الجولاني الحق الحصري في مناقشة ترتيبات الأمن مع الإسرائيلي، يبدو أن هذا أيضًا قد أغضب الإسرائيليين. وصلت الرسالة بشكل واضح للجولاني وقام بسحب قواته من السويداء صبيحة 17 يوليو، بينما استمر التحريض الطائفي على الدروز كخونة وعملاء لإسرائيل، مع تسليط الضوء على حكمت الهجري أحد مشايخ الطائفة الداعين إلى الانفصال والحماية الدولية ولو كانت إسرائيلية، في حين يتجاهل الخطاب الإعلامي جهود يوسف جربوع وحمود الحناوي ولايث البلعوس الرافضين للانفصال من أجل استكمال عملية الحشد الطائفي التي ترتكز عليها سلطة الجولاني.

الشهادات الميدانية الواردة من السويداء لا تشير إلى حملة لضبط الأمن، بل حملة انتقامية تضمنت قتلًا على الهوية وإعدامات ميدانية وانتهاكات بالجملة كثير منها مصور، وأعمال تخريب ممنهج للبنى التحتية بما في ذلك خزانات المياه ومرافق الكهرباء، تزامنت مع تحريض كثيف لمقاطعة السويداء وحصارها وعزلها. ساهم التدخل الإسرائيلي في الترويج لسردية السويداء الدرزية الانفصالية التي تسعى إلى حماية الكيان الصهيوني، كما ساهمت الحكومة والعشائر العربية في خلق مبررات إضافية لدعاوى حكمت الهجري.

تسعى إسرائيل من جانبها إلى سلخ السويداء وكامل الجنوب السوري، لكن، وعلى عكس الشائع، ليس لأنها لا تريد حربًا أهلية مفتوحة بين الطوائف السورية، بل لأنها تريد الإبقاء على سلطة تضمن انفجارات طائفية دورية تجعل من المستحيل بناء مشروع وطني ديمقراطي سوري. إن حربًا أهلية مفتوحة في سوريا لا تسمح بتشكيل وضع ثابت وآمن لإسرائيل على حدودها الشمالية، فإسرائيل تحتاج في سوريا إلى سلطة قادرة على الحفاظ على توتر طائفي مستقر، على الأقل في المدى القصير ريثما تنتهي من حسم قضية لبنان وتركيع حزب الله، وهي العملية التي يقودها توماس براك بصلف وصل حد التهديد بإلحاق لبنان بسوريا.

إن وجود الجولاني على رأس السلطة في دمشق ساهم في قطع التسليح عن حزب الله بشكل ملحوظ، وحتى تنتهي مهمة نزع سلاح الحزب بالكامل فإن الجولاني سيبقى ضرورة. ضرورة ترسم الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل حدودها بدقة، من جهته لا يمتلك الجولاني لا المشروع ولا الذكاء اللذين يجعلانه يناور في بيئة جغرافية شديدة التعقيد مع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على ثلث مساحة سوريا والرفض الصامت من مدن الساحل ذات الأغلبية العلوية، وما جرى في السويداء.

ليس الجولاني هنا ضحية فخ ما، إن طريق الوصول إلى السلطة يفرض كيفية ممارستها، والذي ضمن له البقاء في إدلب، والذي مهد له دخول دمشق هو من يقرر بشكل رئيسي مصير تلك السلطة التي نمت كفطر في فراغ ما بعد سقوط النظام السابق. وهو بحكم خلفيته وبحكم طبيعة القوات العاملة تحت إمرته لا يستطيع ممارسة السياسة خارج إطار لعبة الطائفية التي يمارسها بامتياز، في حين أن العدوان الإسرائيلي المتكرر وما قضمته إسرائيل من التراب السوري قد منحه فرصة ذهبية لبناء إجماع وطني لا طائفي في مواجهة هذه العربدة الإسرائيلية، ليست مواجهة عسكرية فورية بل مشروع إنقاذ وطني يضع تحرير التراب الوطني كهدف إستراتيجي.

غير أن الطائفية تبقى هي خيار الجولاني الوحيد للحفاظ على سلطته وممارستها، في دمشق وحلب وحماة حيث الأغلبية السنية، يتشكل مركز يمارس قهرًا ذا طبيعة طائفية لا تخطئها عين على الساحل كما على السويداء، مركز مشدود ومهدد من جهاته الأربع، تمسك الولايات المتحدة أو إسرائيل أو كلتاهما بخيوطه، تشداه وترخياه بناء على استجابات الجولاني ووعيه بحدود دوره. وليس في الأمر حقيقة أي عطف أمريكي إسرائيلي على الأقليات السورية بل إن قهر الأقليات يعد مدخلًا جيدًا لإبقاء الجولاني مشدودًا إلى صليبه، فهذا التمزق الحاصل يتيح ممارسة كل أنواع الضغط والتلاعب بسلطة غير شعبية لا مشروعية لها، ترتكز على خليط من التكفيريين السوريين والأجانب بين مجموعاتهم تناقضات وتجاذبات أيضًا.