عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

جودي كوكس

الحلم الأمريكي الملطّخ بـ«العنف»

2025.09.14

مصدر الصورة : آخرون

الحلم الأمريكي الملطّخ بـ«العنف»

 

كان تشارلي كيرك يرى أن الوفاة إثر انتشار الأسلحة النارية «أمر مؤسف» [i] ، لكنه اعتبرها في الوقت ذاته نتيجة جانبية «مبررة» لحق امتلاك السلاح. غير أن هذا «الحق» الذي يدافع عنه لم يخلّف سوى مئات الضحايا من الأطفال، وكرّس صورة قاتمة للحلم الأمريكي الملطخ بالعنف.

فاليوم، أصبحت جرائم السلاح السبب الأول للوفاة بين الأطفال والمراهقين في الولايات المتحدة. وفي عام واحد فقط، سُجلت 47 حادثة إطلاق نار داخل المدارس، أسفرت عن مقتل 19 شخصًا وإصابة 77 آخرين. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ إنها علامة على أن عدد هذه الحوادث بلغ مستويات غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي الحديث.

تجارة الرعب

تغذّي الرغبة الجامحة في اقتناء الأسلحة مشاعر الخوف والإحباط واليأس. أحد تجار السلاح عبّر بوضوح عن هذه العلاقة حين قال: «تجارة السلاح مثل تجارة الخمور - تكون جيدة في الأوقات الجيدة، وتصبح رائعة بشكل جنوني عندما تسوء الأحوال». هذه العقلية تربط بين الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من جهة، وبين ازدهار تجارة الدم من جهة أخرى.

عندما تولى جورج بوش الابن منصبه في يناير 2001، كانت الصناعة الأمريكية تبيع نحو 1.5 مليون بندقية سنويًّا. لكن مع نهاية ولايته، وبعد سنوات من «الحرب على الإرهاب»، كان الأمريكيون يشترون ما يقارب 7 آلاف بندقية هجومية من طراز AR-15 يوميًّا.

ثم جاء انتخاب باراك أوباما عام 2008 ليطلق موجة أخرى من الهلع، غذّتها جماعات الضغط بالسلاح عبر خطاب عنصري يثير المخاوف من قدوم رئيس أسود. خلال السنوات الأربع الأولى من رئاسته، تجاوزت مبيعات الأسلحة 43 مليون قطعة، أي بزيادة بلغت 52 في المئة. كما ارتفع عدد أعضاء «الرابطة الوطنية للبنادق» من ثلاثة ملايين إلى خمسة ملايين.

وفي ذروة ما سُمّي بـ«طفرة أوباما»، اتسعت مبيعات السلاح إلى حد أن محلات السوبرماركت فتحت أركانًا مخصصة لبيع البنادق في مئات الفروع.

وعندما خاض دونالد ترامب السباق الرئاسي عام 2016، لم تتردد الرابطة الوطنية للبنادق في دعمه، متبرعةً لحملته الانتخابية بمبلغ 30 مليون دولار.

ومع اندلاع جائحة كورونا في مارس 2020، شهدت البلاد خمسة من بين أعلى عشرة أيام مبيعات للأسلحة في تاريخها. ففي يوم 20 مارس وحده، بيعت 201,308 قطعة سلاح - وهو رقم قياسي لم يشهده أي يوم آخر في تاريخ الولايات المتحدة.

بهذا الشكل، تحولت البنادق الهجومية إلى رموز للوطنية، وأدوات لتأكيد سلطة الذكور، بل وإلى علامة على التفوق الأبيض.

جذور في الإبادة والعبودية

لكن مسألة السلاح في أمريكا ليست مجرد نزعة استهلاكية أو نتيجة ظرف سياسي. بل هي متجذرة في التاريخ الاستعماري للبلاد. ففي كتابها «مسلّح: تاريخ ناقد للتعديل الثاني»، تشير المؤرخة روكسان دنبار-أورتيز إلى أن التعديل الثاني، الذي يضمن حق امتلاك السلاح، قائم على إرث الإبادة الجماعية للسكان الأصليين واستعباد الأفارقة.

فقد أُقرّ التعديل عام 1791 لتمكين المستوطنين البيض من الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين. ومنذ القرن السابع عشر، أُعيد توظيف ميليشيات المستوطنين المسلحين لترويع العبيد ومنعهم من التمرد.

تكتب دنبار-أورتيز: «تأسست الولايات المتحدة على أرض مغتصبة، ورأسمالها كان في شكل عبيد. كان هذا استثناءً في العالم وما زال استثناءً. صناعة السلاح الرأسمالية كانت من أوائل الشركات الحديثة الناجحة. انتشار السلاح والعنف المرتبط به اليوم أحد أبرز إرثها».

وعلى مدى قرون، حُظر على السود امتلاك الأسلحة. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية بين عامي 1861 و1865، حمل نحو 200 ألف جندي أسود البنادق وتعلموا استخدامها، بل إن كثيرًا منهم احتفظوا بأسلحتهم بعد انتهاء الحرب.

لكن ذلك لم يدم طويلًا، إذ ظهر تنظيم «كو كلوكس كلان» بهدف نزع سلاح السود عبر حملات ترويع. وفي عام 1871، أُنشئت الرابطة الوطنية للبنادق للدفع نحو قوانين ترخيص تُقصي السود وتحرمهم من الدفاع عن أنفسهم.

وفي منتصف القرن العشرين، تكرر المشهد. عام 1956، تعرض منزل مارتن لوثر كينج للتفجير، لكنه حين تقدم بطلب للحصول على رخصة سلاح، قوبل طلبه بالرفض من سلطات مونتجومري، ألاباما.

وعندما نظّم مقاتلو «الفهود السود» احتجاجًا مسلحًا في برلمان كاليفورنيا عام 1967، سارع الحاكم رونالد ريجان -الذي سيصبح لاحقًا رئيسًا جمهوريًّا- إلى إصدار قانون يحظر حمل الأسلحة. وبعد عام واحد، اغتيل كينج، واجتاحت المدن الشمالية اضطرابات عارمة. حينها رفعت الرابطة الوطنية شعار «السيطرة على السلاح»، لكنها كانت تعني في الحقيقة السيطرة على السود في الأحياء الفقيرة.

الداخل والخارج.. وجهان للعنف الأمريكي

العنف المسلح في الداخل الأمريكي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدور الإمبريالي للولايات المتحدة في الخارج. فهي أكبر مصدر للأسلحة في العالم، إذ تصنع شركاتها نحو 40 في المئة من الإنتاج العالمي.

أعداد القتلى الذين سقطوا بسبب الحروب الأمريكية صادمة: تقديرات حرب فيتنام وحدها تتراوح بين 1.5 و3.5 مليون قتيل. أما في العراق، فقد تجاوزت الحصيلة المليون. وفي أفغانستان، قُتل نحو 75 ألفًا خلال عقدين من الاحتلال الغربي.

كما كتبت صحيفة يسارية: «هناك دول كثيرة تقمع شعوبها بطرق فظيعة. لكن لا توجد، على مستوى الكوكب، دولة أخطر وأكثر عداءً للديمقراطية وقتلًا للناس من الولايات المتحدة».

وتكشف ميزانية البنتاجون عن هذا الدور؛ فقد تجاوزت 900 مليار دولار سنويًّا، أي إن كل أمريكي يدفع نحو ألفي دولار لتمويل الجيش. للمقارنة، فإن الصين تنفق أقل من 300 مليار دولار على جيشها.

وفي كتابه «المجمّع: كيف يغزو الجيش حياتنا اليومية»، يوضح نيك تورس كيف يتغلغل نفوذ البنتاجون في صناعة السينما عبر هوليوود، وفي الثقافة الشعبية عبر قصص مارفل، بل وحتى في البحث العلمي داخل الجامعات.

مجتمع ينهشه التفاوت واليأس

العنف المسلح اليوم ليس مجرد إرث تاريخي، بل أيضًا انعكاسًا لحياة يومية ينهشها اليأس في واحدة من أكثر المجتمعات تفاوتًا على وجه الأرض. فـ20% من الثروة الوطنية تذهب إلى 1% من السكان، بينما يمتلك 0.1 في المئة ما يعادل ثروة 90 في المئة من الشعب.

هذه الفجوة المروعة تُترجم إلى معدلات انتحار متصاعدة. فقد ارتفعت نسب الانتحار بنسبة 30 في المئة خلال 17 عامًا. وفي عام 2023 وحده، أقدم 49 ألف أمريكي على الانتحار، وكان نصف الوفيات المرتبطة بالأسلحة نتيجة لإطلاق النار على النفس.

ورغم هذه الكارثة، اختارت الدولة القمع بدلًا من الحلول الاجتماعية. فالولايات المتحدة التي تضم 5% فقط من سكان العالم، تحتجز 25% من سجناء الكوكب، أي ما يقارب مليوني إنسان. وتشير بيانات «مجموعة تحليل بيانات حقوق الإنسان» إلى أن رجال الشرطة مسؤولون عن ثلث جرائم القتل المقيدة ضد مجهول.

سقوط الوعد الأمريكي

إن مواجهة العنف المسلح تتطلب أكثر من تشديد القوانين؛ فهي مرتبطة بمطالب أوسع للعدالة الاجتماعية: رعاية صحية مجانية، وتقليص ميزانية البنتاجون، وإعادة النظر في تمويل الشرطة.

لكن في النهاية، فإن ما يُسمى «الحلم الأمريكي» ليس سوى اسم آخر لوعود الرأسمالية المتجددة أبدًا والمنهارة أبدًا: وعود بالرخاء والأمن والإشباع لا تتحقق أبدًا.

ولعل أكثر الأسباب إلحاحًا لإسقاط هذا النظام المريض هو موت الأطفال العبثي، سواء في مدارس تكساس أو في شوارع غزة.


[i] نُشر في « Socialist Worker » بتاريخ 13 سبتمبر.