عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

آن ألكسندر

إسرائيل تسعى إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط… لكن يمكن إيقافها

2025.10.12

إسرائيل تسعى إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط… لكن يمكن إيقافها

 

العاصفة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 ستخلّف وراءها حصادًا مرًّا، رغم مشاعر الارتياح التي عمّت غزة بعد «اتفاق السلام» الذي أعلنه دونالد ترامب. فقد دمّرت القوات الإسرائيلية عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وحرمت مئات الآلاف من الغذاء، ودمّرت نسيج الحياة في القطاع بأكمله.

ومع ذلك، كافأ ترامب هذه الفظائع. فالرئيس الأمريكي لم يُخفِ رغبته في تحويل غزة إلى مستعمرة تجارية فاخرة، يكون هو نفسه حاكمها الأعلى، بمساعدة مجرم الحرب المخضرم توني بلير.

خطة ترامب «ذات العشرين بندًا للسلام»، التي شكّلت الأساس للاتفاق بين إسرائيل وحركة حماس، تضمّ إشارات خجولة إلى خطط «اليوم التالي» لإدارة غزة. غير أن وثيقة مسرّبة نُشرت في 29 سبتمبر كشفت عن الهيكل المقترح لما يسمى «الهيئة الدولية الانتقالية لغزة (GITA)».

وقد تبيّن أن قناع «المشاركة الفلسطينية» الذي رفعته دول عربية وأوروبية لتغطية هذه الصفقة القذرة، كان مجرد خيال. فالوثيقة تشير إلى «تكنوقراط فلسطينيين» يتولّون مهام «تقديم الخدمات»، أي دور الوسيط بين السكان المنكوبين والحاكمين الفعليين.

أما السلطة السياسية الحقيقية في هذه الرؤية الاستعمارية، إلى جانب الرئيس توني بلير نفسه، فهي «المجلس الدولي للهيئة»، الذي يوصف بأنه «مجلس حاكم رفيع المستوى»، وهو اسم يذكّر بالجهاز الوهمي الذي أنشئ بعد غزو العراق عام 2003. ويُفترض أن يضم المجلس «شخصية فلسطينية واحدة على الأقل ذات مؤهلات مناسبة»، لكنّ مُعدِّي الخطة لم يكلفوا أنفسهم عناء ذكر اسم أيٍّ منهم.

ولفهم أسباب ما جرى في العامين الماضيين، لا بدّ من العودة إلى بيروت في أغسطس 1982. في تلك الأيام الحارّة الغاضبة، غادر عشرات الآلاف من المقاتلين الفلسطينيين لبنان، بعد أن أطلقوا رصاصاتهم الأخيرة تحيةً لرفاقهم الذين سقطوا في أعقاب الغزو الإسرائيلي.

ذلك الهجوم دمّر البنية العسكرية والمدنية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، التي كانت مركزها الرئيسي آنذاك.

وقد خلّف مجزرة لا تقلّ وحشية عن تلك التي أطلقتها إسرائيل بعد 7 أكتوبر. ففي الحالتين، استغلت إسرائيل اضطرابات موازين القوى في المنطقة لتطلق موجات من القتل الجماعي والعنف.

كان الهجوم مخطَّطًا له منذ زمن من قبل رئيس الوزراء مناحيم بيجن ووزير دفاعه أرييل شارون، ضمن إستراتيجية أوسع لتحويل احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، بعد حرب الأيام الستة عام 1967، إلى احتلال دائم.

وقف بيجن عام 1981 عند قبر الزعيم الصهيوني اليميني المتطرف زئيف جابوتنسكي معلنًا أن «إسرائيل الكبرى في الغرب لن تُقسَّم أبدًا».

لكن ما الشرارة التي أشعلت هذا الهجوم؟ بالتأكيد لم تكن بحجم هجوم السابع من أكتوبر 2023. بل كان السبب محاولة فاشلة لاغتيال السفير الإسرائيلي في بريطانيا شلومو أرجوف، نفذتها منظمة أبو نضال، وهي جماعة غامضة مدعومة من النظام العراقي، وعدوٌّ لدود لياسر عرفات.

غير أن الفارق لم يكن يعني شيئًا لبيجن، الذي قال ساخرًا: «أبو نضال، أبو شميدال… كلهم منظمة التحرير الفلسطينية».

منذ انتصار إسرائيل على مصر وسوريا في 1967، أغدقت الولايات المتحدة عليها المساعدات العسكرية والاقتصادية.

لقد كانت إسرائيل -ولا تزال- «كلب حراسة» للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط، وأداة تستخدمها واشنطن لترجيح كفة السياسات الاقتصادية والاجتماعية لمصلحتها في المنطقة.

فمصر، مثلًا، تبنّت ما يُعرف اليوم بـ«الليبرالية الجديدة» في وقت مبكر، نتيجة مباشرة لهزيمة 1967. تلك الإصلاحات التي فُرضت لفتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الأجنبية وتقليص الإنفاق الحكومي على الإنتاج الصناعي والرعاية الاجتماعية، جاءت بضغط من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهما ذراعا النظام الإمبريالي الأمريكي.

أدت تخفيضات الرئيس أنور السادات للدعم الحكومي على الخبز إلى انفجار احتجاجات شعبية في 1977 كادت تطيح بحكمه. فجاء رده بمزيد من التنازلات السياسية للولايات المتحدة وحلفائها. زار القدس والتقى بيجن وأعلن «اتفاق سلام» مع إسرائيل، ما حرم الفلسطينيين من أقوى حلفائهم الإقليميين.

هذا التغيّر في ميزان القوى بين إسرائيل وجيرانها كان خلفية حاسمة لكارثة 1982 في لبنان.

فالثورة الشعبية في إيران عام 1979 أطاحت بالملكية الموالية لأمريكا، وفتحت آفاقًا جديدة للتغيير من الأسفل عبر الإضرابات والمجالس العمالية. وقد أضعف ذلك النفوذ الأمريكي مؤقتًا في المنطقة.

لذلك جاءت سياسات بيجن وشارون العدوانية ردًّا على تراخي قبضة السيد الأمريكي على الشرق الأوسط، ومن مظاهرها قصف المفاعل النووي العراقي في يونيو 1981، ثم غزو لبنان بعد عام.

مرة أخرى، تأكد الدور الوظيفي للدولة الإسرائيلية كأداة لحماية مصالح القوى الإمبريالية الغربية، عبر إعادة ضبط موازين القوى الإقليمية على أجساد الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين المحترقة.

لم تكن الرسالة الموجهة من قصف لبنان إلى منظمة التحرير وحدها، بل إلى إيران والعراق أيضًا، وكلاهما كان يُنظر إليه كمنافس محتمل على زعامة المنطقة خارج السيطرة الأمريكية.

لكنّ الحرب الطويلة التي اندلعت بين نظام صدام حسين وجمهورية الخميني الإسلامية استنزفت الطرفين، وأعادت الاستقرار النسبي إلى ميزان القوى الهش.

ما الذي يمكن أن يقوله ذلك عن خلفية الكارثة الراهنة في غزة؟

لقد كان مشروع منظمة التحرير لبناء «دولة في المنفى» يعتمد اعتمادًا شبه كلي على دعم الأنظمة العربية. فاختارت سياسة «عدم التدخل» في الصراعات الطبقية في المنطقة مقابل الاعتراف الدبلوماسي والدعم المالي والعسكري.

ذلك يعني تجنّب بناء نضال مشترك بين الفلسطينيين وعمال وفقراء لبنان وسوريا والأردن، بل ومناهضته أحيانًا. واقترن هذا النهج لاحقًا بقبول مبدئي لفكرة «حل الدولتين»، أي الاكتفاء بدولة على جزء من فلسطين التاريخية.

لكن كما أثبتت أحداث بيروت عام 1982، فإن «عدم التدخل» كان فخًّا قاتلًا، ترك الحركة الفلسطينية رهينة لمناورات القوى الإقليمية في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.

واليوم، كما في 1982، تبرهن القوى الإقليمية التي ترفع شعارات «مقاومة الإمبريالية الأمريكية» أنها حلفاء غير موثوقين، تاركة الفلسطينيين يقاتلون وحدهم.

تفكك ما سُمّي بـ«محور المقاومة» مثال واضح على ذلك. فالمحور الذي جمع حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، ونظام الأسد في سوريا، والحوثيين في اليمن تحت رعاية إيران، قام أساسًا لحماية النظام الإيراني نفسه.

ورغم ما بدا من توازن على الورق، فإن إسرائيل دمّرت غزة بلا رادع تقريبًا طوال عام بعد السابع من أكتوبر، ثم قضت على قيادة حزب الله في سبتمبر 2024. ومع انهيار نظام الأسد في ديسمبر من العام نفسه، أطلق قادة عسكريون سوريون النار على جنرالات إيرانيين ساعدوا في دعم الديكتاتورية.

أما الضربات الجوية الإسرائيلية داخل إيران فقتلت قيادات من حماس واستهدفت منشآت نووية.

لم تكن هشاشة سوريا وإيران ناتجة فقط من التفوق العسكري الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا، بل عن أزماتهما الداخلية كذلك. فالنظام الإيراني فقد شعبيته بعد قمعه الوحشي لانتفاضة قادتها نساء شابات إثر مقتل جينا مهسا أميني عام 2022، وهو ما دفعه إلى التخلي عن غزة.

أما خيار «الدولة على جزء من فلسطين التاريخية» فقد أثبت بدوره أنه فخّ قاتل، سواء لحماس أو لمنظمة التحرير.

تأرجحت إسرائيل على الدوام بين نظام الفصل العنصري والإبادة الجماعية كطريقتين لإدارة قمع الفلسطينيين. وتدمير غزة اليوم ليس سوى إعادة ضبط دامية لهذا التوازن، بينما يحلم اليمين الإسرائيلي المتطرف بـ«إكمال المهمة».

اتفاقات أوسلو في التسعينيات قُدّمت باعتبارها طريقًا نحو دولة فلسطينية في القدس الشرقية والضفة وغزة، لكنها لم تكن يومًا خطوة حقيقية نحو تقرير المصير، بل آلية لإبقاء السيطرة الإسرائيلية شبه المطلقة على الأمن في الأراضي المحتلة.

واصلت إسرائيل مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، بينما تولّت السلطة الفلسطينية مهمة «الشرطة» داخل الاحتلال.

واللافت أن حماس كانت الأكثر جدية في التعامل مع الوهم المسمّى «الدولة»، ودفع سكان غزة الثمن الباهظ. فقد فازت الحركة بانتخابات 2006 التي وصفها دبلوماسيون أوروبيون بأنها «حرة ونزيهة»، لكن لم يكن هناك أي انتقال سلمي للسلطة. إذ تواطأت واشنطن مع قيادات في حركة فتح لتنفيذ انقلاب، أدى في النهاية إلى سيطرة حماس على غزة عام 2007.

ومنذ ذلك الحين، رسّخ هذا الانقسام ما يشبه «حلّ الدول الثلاث»: سلطة فتح في الضفة، وسلطة حماس في غزة، وإسرائيل التي تحتفظ بالسيادة الفعلية على فلسطين التاريخية.

النظام الذي أرساه الاحتلال الإسرائيلي كان، ولا يزال، نظامًا عنصريًّا جذريًّا، يمنح اليهود امتياز التفوق القانوني على كل من يعيش بين النهر والبحر.

اليوم، هُمش مهندسو «نظام أوسلو» في الداخل والخارج الإسرائيلي، ومع ذلك يتجدد السؤال: هل هناك بديل حقيقي ودائم لهذا التأرجح القاتل بين الأبارتهايد والإبادة؟

الجواب: نعم. لكنه يتطلب تفكيرًا مختلفًا في طبيعة الدولة نفسها، وفي الكيفية التي تعمل بها أنظمة الدول في عالم رأسمالي.

نضالات الفلسطينيين أنفسهم تقدّم إلينا الطريق. ففي «انتفاضة الوحدة» في مايو 2021، رفع الفلسطينيون شعار الإضراب العام في كامل فلسطين التاريخية، وشارك فيه للمرة الأولى منذ عقود فلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية. خرجوا احتجاجًا على تسارع سلب أراضيهم في جانبي حدود 1967.

كشفت الانتفاضة عن عنصرية الدولة الصهيونية، وعن ارتباط تلك العنصرية بالبنية الطبقية. وأظهرت كيف يمكن للنضال الشعبي من الأسفل أن يعطّل آلة القمع والاستغلال. فقد توقفت مواقع البناء الإسرائيلية، وشُلّت خدمات النقل والصحة في بعض المناطق.

لكن العمال الفلسطينيين وحدهم لم يتمكنوا من زعزعة الدولة الصهيونية، فهم بالكاد نصف سكان فلسطين التاريخية، ومُستبعَدون من القطاعات الأعلى ربحًا في اقتصاد التكنولوجيا الإسرائيلي.

لذا، فإن التحرر يتطلب حركة ثورية من الأسفل داخل الدول المجاورة.

تقييد أهداف النضال بمجرد نيل «الدولة» والانضمام إلى «نادي الأمم» لن يخدم مصالح الشعوب. وإذا كان وعد الدولة فخًّا، فماذا عن مفهوم «حق تقرير المصير»؟

التجربة الفلسطينية تكشف أن هذا المفهوم أعمق من مجرد سلطة أو علم. فهو يعني النضال من أجل القدرة على الحياة نفسها.

يتجسد هذا المعنى في إصرار الأطباء والمعلمين والصحفيين والمزارعين والعمّال الفلسطينيين على الصمود والعمل وسط القصف والمجاعة، دفاعًا عن الكرامة والإنسانية.

لقد رفع بعضهم رايات فتح أو اليسار الفلسطيني أو حماس، وآخرون لم يرفعوا راية أحد، لكنّ جوهر نضالهم واحد: التنظيم الذاتي الشعبي في مواجهة الإبادة.

ليس لأنهم يحبّون الموت، بل لأنهم يريدون الحياة. كما تقول الشاعرة الفلسطينية رفيـف زيادة: «نحن نعلّم الحياة».

نضال الفلسطينيين من أجل الوجود نفسه هو أسمى صور تقرير المصير، لأنه يُلهم ملايين البشر حول العالم الذين يرون فيه صدى معاركهم ضد الظلم.

في أوروبا نفسها، تظهر ومضات من هذا الطريق. فالإضرابات العامة التي اجتاحت إيطاليا أخيرًا مثال حي على غضب الطبقة العاملة.

تداخل الغضب من الإبادة في غزة مع السخط على قمع الشرطة ليملأ الشوارع بالملايين، وأغلق عمال الموانئ الشحنات المتجهة إلى إسرائيل، وشلّت الاحتجاجات مدنًا بأكملها.

كان للناشطين الفلسطينيين دور أساسي في هذه الموجة، عبر حركات شبابية داخل إيطاليا وتعاونهم مع النقابات الراديكالية لنشر أساليب نضال أكثر جذرية.

هذه الطاقة الشعبية تولّد إمكانات جديدة للمقاومة والتغيير، وتحمل في طياتها بذور الأمل الذي عبّر عنه محمود درويش حين قال: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

ووعدنا لأهل غزة أننا لن نتخلى أبدًا عن وعد العدالة والتحرر المتجسّد في صمودهم وإصرارهم على تقرير مصيرهم.


نُشر المقال في Socialist Worker .