هوامش
أشرف إبراهيم"زلزال في الوعي الغربي": كيف غيرت حرب غزة صورة إسرائيل في العالم؟
2025.09.07
مصدر الصورة : آخرون
"زلزال في الوعي الغربي": كيف غيرت حرب غزة صورة إسرائيل في العالم؟
لعقود طويلة سادت الرواية الصهيونية عن "إسرائيل" المحاطة بالأعداء من كل جانب، والمستهدَفة لكونها "دولة يهودية" تأسست لحمايتهم من تكرر جريمة "الهولوكست" في أرض الميعاد التي منحها لهم الرب منذ آلاف السنين.
لم يعد الرأي العام العالمي أسيرًا لتلك الرواية بعد أن شاهد على الهواء "الهولوكست" الفلسطيني، ورأى المجرم النازي الصهيوني يرتكب ما يتجاوز أفظع وصف موجود للهولوكست اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية.
تسببت الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة في إحداث "زلزال في الوعي الغربي"، وتحول غير مسبوق في الموقف الشعبي العالمي تجاه الاحتلال الصهيوني على فلسطين. فمع استمرار العدوان الأخير إلى ما يقرب من عامين، وما خلَّفه من دمار واسع النطاق وخسائر بشرية فادحة، بدأت حقائق القضية الفلسطينية تفرض حضورها بقوة على حساب الرواية الإسرائيلية التقليدية، ما أدى إلى تصدع أخلاقي في شرعية الاحتلال وتزايد عزلة إسرائيل على الساحة الدولية.
وشهد العالم خلال العامين الأخيرين تحولًا جذريًّا في المواقف الشعبية والرسمية تجاه إسرائيل، مع استمرار حربها المدمرة على قطاع غزة التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وتسببت في نزوح وتشريد الغالبية العظمى من سكان القطاع. لم يعد العالم ينظر إلى الحرب باعتبارها صراعًا عسكريًّا فحسب، بل كجريمة إنسانية متكاملة الأركان، بل إن كثيرًا من الأصوات المؤثرة صارت تصفها بالإبادة الجماعية.
من المأساة إلى الإبادة
شهدت غزة تدميرًا واسع النطاق، مع تقارير تفيد بمقتل أكثر من 63 ألف فلسطيني، نصفهم تقريبًا نساء وأطفال، وإصابة أكثر من 160 ألف آخرين، وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية ودراسات في مجلة "لانسيت"، التي قدرت الوفيات نتيجة الإصابات بحوالي 93 ألفًا بحلول مايو 2025.
كما أدى الحصار الإسرائيلي إلى نقص حاد في الغذاء والدواء، ما أظهر حقيقة استخدام إسرائيل للتجويع الجماعي كأداة حرب. منظمة "أمنستي إنترناشونال" خلصت إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، مستندة إلى أدلة على قتل مدنيين ومجازر يومية، وتدمير بنى تحتية تشمل استهداف المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء.
إلى جانب ذلك، أثارت صور القصف الواسع وتهجير السكان موجة غير مسبوقة من التضامن مع الفلسطينيين، وأصبحت المنظمات الحقوقية والإنسانية أكثر جرأة في توصيف ما يجري دون مجاملة دبلوماسية.
جاء التحول اللافت في الولايات المتحدة، التي اعتبرت دومًا الحليف الإستراتيجي الأبرز لإسرائيل، حيث كشف استطلاع للرأي أجرته جامعة "كوينيبياك" في نهاية أغسطس 2025 عن نقطة تحول فارقة: لأول مرة منذ عام 2001، يتقدم التعاطف مع الفلسطينيين على حساب التعاطف مع إسرائيل. والأخطر من ذلك، أن 50% من الأمريكيين يرون أن ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة يشكل "إبادة جماعية".
هذا التغير يعكسه بوضوح تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مقابلة مع "ذا ديلي كولر"، الذي قال إن إسرائيل "تخسر الرأي العام العالمي" بسبب الحرب.
وأضاف ترامب: "كان هناك وقت لم يكن بإمكانك التحدث بشكل سيئ إذا أردت أن تكون سياسيًّا. لكن اليوم، لديك كل هؤلاء المجانين، وقد غيروا الأمر حقًّا". وتطرق إلى الحرب على غزة قائلًا: "الناس نسوا 7 أكتوبر. كان يومًا سيئًا حقًّا"، معربًا عن قلقه من تأثير استمرار الحرب في صورة إسرائيل: "قد يكونون يربحون الحرب، لكنهم لا يربحون عالم العلاقات العامة".
الأهم من ذلك، أن ترامب كشف عن تراجع النفوذ الإسرائيلي التاريخي في أروقة السياسة الأمريكية. "إذا عدت 20 سنة، كان لإسرائيل أقوى لوبي في الكونجرس... اليوم، ليس لديها هذا اللوبي القوي". وأضاف: "كان لديهم سيطرة كاملة على الكونجرس، والآن ليس لديهم". هذه التصريحات، الصادرة عن رئيس يُعرف بدعمه القوي لإسرائيل، تشير إلى تحول عميق في المشهد السياسي الأمريكي.
ويعد جيل الشباب، خاصة في الجامعات، هو المحرك الأساس لهذا التحول في الرأي العام، فيما يشبه لحظة "فيتنام جديدة" في الوعي الأمريكي. فالشباب اليوم أكثر اطّلاعًا على الحقائق عبر وسائل السوشيال ميديا، وأقل تأثرًا بالرواية التقليدية التي يروّجها اللوبي المؤيد لإسرائيل.
فقد أظهر استطلاع لمركز "بيو" للأبحاث انخفاضًا ملحوظًا في الدعم لإسرائيل، خاصة بين الجمهوريين الشباب تحت سن 50 عامًا، حيث ارتفعت النظرة غير المواتية للاحتلال الإسرائيلي من 35% عام 2022 إلى 50% في مارس 2025.
ورغم هذا التحول الشعبي، فلا تزال هناك فجوة واضحة مع المؤسسة السياسية. فالانقسام الحزبي حاد، حيث ينتقد غالبية الديمقراطيين والمستقلين إسرائيل بشدة، بينما لا يزال الجمهوريون يدعمونها. ومع ذلك، يرى محللون أن هذا الواقع "ليس ثابتًا"، مع صعود قوى شعبية قد تحدث اختراقًا في السنوات القادمة.
أوروبا تتحرك
في أوروبا، يتخذ التحول في الرأي العام أشكالًا أكثر عملية. فقد ألغت دول مثل إسبانيا صفقات أسلحة مع إسرائيل بقيمة 325 مليون دولار، احتجاجًا على الحرب. ويُنظر إلى استمرار إسرائيل في تصدير الأسلحة، الذي سجل رقمًا قياسيًّا بلغ 15 مليار دولار العام الماضي، على أنه "استغلال تجاري" يفاقم الأزمة الإنسانية.
الخطوة السياسية الأبرز هي التوجه المتزايد نحو الاعتراف بدولة فلسطين. فقد أعلن وزير الخارجية البلجيكي أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، مع نية فرض عقوبات صارمة على إسرائيل. كما أعلنت فرنسا عن نيتها اتخاذ خطوة مماثلة.
كما أن بعض الدول الإفريقية وأمريكا اللاتينية انضمت إلى موجة الاعتراف بفلسطين، في تعبير عن انتقال الموقف من الحياد إلى الاصطفاف مع عدالة القضية الفلسطينية.
كما تشارك أكثر من 250 وسيلة إعلامية من نحو 70 بلدًا في حملة للتنديد بقتل إسرائيل عددًا كبيرًا من الصحافيين الفلسطينيين في غزة، بمبادرة من منظمتي "مراسلون بلا حدود" و"آفاز". وقد أحصت منظمة مراسلون بلا حدود مقتل أكثر من 210 صحافيين منذ بدء الحرب والهجمات الإسرائيلية على غزة.
هذه الحملة التي شملت صحفًا كبرى مثل لومانيتيه الفرنسية وبوبليكو البرتغالية، عكست تزايد الإدراك عالميًّا أن استهداف الإعلام يهدف إلى طمس حقيقة الجرائم الإسرائيلية في الحرب.
اتهامات بالإبادة الجماعية
على المستوى القانوني، تواجه إسرائيل اليوم أكبر تحدٍّ منذ تأسيسها. فقد رُفعت دعاوى أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، فيما رفعت منظمة مراسلون بلا حدود أربع شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية تتهم الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب ضد الصحفيين.
وفي خطوة غير مسبوقة، تبنت الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية -التي تضم حوالي 500 خبير من جميع أنحاء العالم- قرارا ينص على استيفاء المعايير القانونية لارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة. وأيد 86% من المصوتين القرار الذي ينص على أن "سياسات إسرائيل وتصرفاتها في غزة تستوفي التعريف القانوني للإبادة الجماعية المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الصادرة سنة 1948".
هذا القرار، يعطى شرعية دولية متزايدة للاتهامات الموجهة إلى إسرائيل، ويفتح الباب أمام تحركات قضائية على مستوى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، تشمل فرض عقوبات وملاحقات قضائية ضد مسؤولين إسرائيليين، وزيادة العزلة الدولية لإسرائيل.
دور الإعلام البديل والناشطين الدوليين
يلعب التوثيق الرقمي المباشر من غزة دورًا حاسمًا في كسر الهيمنة الإعلامية التقليدية. صور المجازر والبث المباشر من غزة قلبت المزاج الشعبي العالمي، وجعلت الرواية الفلسطينية أكثر مصداقية وتأثيرًا من رواية الاحتلال المصقولة.
لم يكن هذا "الزلزال في الوعي" نتيجة ضعف الرواية الإسرائيلية فحسب، بل بفعل "وعي تراكمي بدأ يكسر احتكار الصهيونية للمشهد الإعلامي والثقافي في الغرب". لعبت وسائل الإعلام البديلة ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في هذا الصدد.
بالإضافة إلى العالم الرقمي، برزت تحركات رمزية على الأرض. في خطوة إنسانية جريئة، قادت الناشطة السويدية جريتا تومبرج رحلة بحرية إلى غزة على متن قارب محمل بالمساعدات، متحدية الحصار الإسرائيلي. كانت رسالتها واضحة: "الخطر الأكبر هو الصمت". هذه الرحلة، رغم أخطار الاعتقال أو الطرد، عكست موقفًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا يؤكد على ضرورة الوقوف ضد الصمت العالمي إزاء المعاناة في غزة.
كما تشهد الأوساط الأكاديمية والثقافية في الغرب تحولًا ملحوظًا في خطابها تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لم يعد الخطاب المؤيِّد لحقوق الفلسطينيين مقتصرًا على دوائر محدودة، بل أصبح جزءًا من التيار الرئيسي في عديد من الجامعات والمؤسسات الثقافية المرموقة.
احتجاجات وأزمة في الجيش
أظهرت ردود الفعل الإسرائيلية على هذا التحول مزيجًا من الإنكار والقلق. فمن ناحية، تواصل إسرائيل نفي الاتهامات الموجهة إليها بشأن ارتكاب إبادة جماعية، وتعمل على مواجهة الدعوى أمام محكمة العدل الدولية. ومن ناحية أخرى، تحذر وسائل الإعلام الإسرائيلية من "التحول الأخطر في التاريخ الحديث للوعي الأمريكي تجاه إسرائيل".
لكن التغير ليس في الخارج فقط، بل في الداخل الإسرائيلي أيضًا، حيث تتصاعد الأصوات المعارضة للحرب. فقد تظاهر الآلاف في تل أبيب مطالبين بوقف العمليات العسكرية والإفراج عن المحتجزين. كما تظهر استطلاعات الرأي أن غالبية الإسرائيليين يؤيدون وقف إطلاق النار الدائم.
حتى في الأوساط السياسية والعسكرية، هناك تشكيك في جدوى استمرار الحرب. رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت أكد أن الحرب حققت أهدافها، وأن استمرارها يضر بمصالح إسرائيل، محذرًا من "كارثية" خطط نتنياهو.
على الصعيد العسكري، بعد 20 شهرًا من الحرب، يعاني الجيش الإسرائيلي من نقص في الأفراد، ما اضطره إلى الاعتماد بشكل متزايد على النساء في الوحدات القتالية، حيث وصلت نسبتهن إلى 21%. هذا الاعتماد المتزايد، مع وجود تحديات في تدريب النساء وتحديد أدوارهن، يعكس أزمة نقص الأفراد ويبرز الحاجة إلى حلول طويلة الأمد. كما يعاني جنود الاحتياط من عبء نفسي واجتماعي كبير يهدد استقرار المجتمع العسكري.
نحو مستقبل جديد للصراع
التحول في الرأي العام العالمي تجاه إسرائيل ليس حدثًا عابرًا، بل هو مسار بدأ ولن يتوقف. هذا التحول يمثل فرصة تاريخية لتحويل هذا التعاطف العالمي إلى ضغوط سياسية ملموسة، وتحويل هذا التحول الشعبي إلى تغيير سياسي حقيقي يتطلب جهدًا نضاليًّا قادرًا على تحويل الموجة الشعبية إلى ضغط منظم على الحكومات والدول المتواطئة في العدوان، فالسردية الفلسطينية أصبحت حاضرة في الوعي العالمي، والمطلوب الآن تثبيتها وترجمتها إلى فعل سياسي مؤثر.
المصادر:
-
تقارير صحفية من: "واشنطن بوست"، "نيويورك تايمز"، "جارديان"، و"تايمز أوف إسرائيل".
-
استطلاع جامعة كوينيبياك (أغسطس 2025).
-
مقابلة ترامب مع "ذا ديلي كولر" (سبتمبر 2025).
-
قرار الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية (سبتمبر 2025).
-
تقارير منظمة "مراسلون بلا حدود" عن استهداف الصحفيين في غزة.
-
تصريحات مسؤولين أوروبيين حول الاعتراف بدولة فلسطين.
-
تقارير عن إلغاء صفقات الأسلحة الأوروبية مع إسرائيل.